تضع "الحوار" بين يدي قرائها الكرام هذه السلسلة عن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، تجدون فيها كل ما يخص حياة هذا البطل الذي اغتالته يد الغدر الصهيونية، وستروي هذه الصفحات في طياتها فصول "الهوية النضالية للشعب الفلسطيني السيرة والمسيرة ". …… عرفت حركة فتح منذ العام1961 حدثان مهمان ساهما في توسيع صفوف الحركة: الأول، النجاح في توحيد معظم المنظمات الفلسطينية التي نشأت بصورة عفوية في الكوي. أما الحدث الثاني، فكان اندماجها مع المنظمة التي كان يذكّيها في قطر والسعودية، ثلاثة رجال سيلعبون بعد ذلك أدواراً من المقام الأول، وهم: أبو يوسف النجار، وأبو مازن، وكمال عدوان. وقد أصدرت حركة "فتح" في لبنان مجلة "فلسطيننا – نداء الحياة" في نوفمبر1959، وأصبح لديها أداة إعلامية ودعائية وتنظيمية أيضاً، وكان القانون اللبناني قاسياً في شروطه، فوجد "توفيق حوري"، وهو لبناني انضم للحركة، أن هناك مجلة متوقفة عن الصدور اسمها "نداء الحياة" فقام بإحيائها وأصبح رئيس تحريرها، وتحايل على غلافها بحيث أصبح العنوان "فلسطيننا" بخط كبير يمتد على معظم عرض غلاف المجلة، وكتب على رأس الألف الأخيرة عبارة "نداء الحياة" بخط صغير. وأصبح صندوق بريد المجلة 1684 بيروت، هو العنوان الوحيد للمجلة وللحركة في آن واحد، وكان ياسر عرفات وأبو جهاد يمراّن لأخذ البريد المرسل من الفلسطينيين في الشتات، وظلت تصدر شهرياً حتى وصلت العدد 40، حيث توقفت عشية انطلاق الكفاح المسلح، وكان عرفات يساهم بنفقاتها من ماله الشخصي إلى جانب الميسورين اللبنانيين، وكانت المقالات تكتب من دون أسماء. في ضوء ذلك، وبحلول العام 1964، أصبحت حركة "فتح" الشغل الشاغل لعرفات، فقد ابتعد عن وظيفته في بناء الطرق (في الكويت) بشهادات طبية زائفة، فقدم استقالته وتفرغ للعمل داخل الحركة، نتيجة تزايد مجموع المناضلين فيها. في هذا الوقت، برزت معضلتان أمام الحركة، الأولى: إقرار الجامعة العربية في مؤتمرها الأول، الذي عقد بتاريخ 13 جانفي 1964، الذي عقد بدعوة من الرئيس جمال عبد الناصر، لمناقشة الخطوات الواجب اتباعها في مواجهة عزم إسرائيل تحويل مجرى نهر الأردن، وتكليف أحمد الشقيري بتشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، والجيش الوطني الفلسطيني. وبعد مداولات مع أحمد الشقيري، تمكنت حركة "فتح" من إدخال سبعة أعضاء في هذا المجلس، كان عرفات من بينهم. أما المعضلة الثانية، فكانت الخلافات حول موضوع انطلاقة الكفاح المسلح، حيث رفضت غالبية قيادة وكوادر حركة "فتح" الأساسيين إعلان الثورة المسلحة في بداية العام 1965، في حين رفض أبو عمار وأبو جهاد وآخرين تأجيل هذا الموعد مهما كانت الظروف، وأطلق على رأي الفئة الأولى رأي العقلاء، وعلى الرأي الآخر رأي المجانين، الذي تمكن من قيادة الحركة نحو عدم التريث، فكانت عملية البطوف (نفق عيلبون)، التي حدثت في 1 /1 /1965، والتي استشهد على إثرها أحمد موسى، واعتقل محمود حجازي، والتي أثارت انتشاراً واسعاً في أخبار العالم، معلنة إنطلاق ثورة "فتح" من السرية إلى العلنية. * هزيمة جوان.. وشعلة الكفاح المسلح في هذا الوقت برز اسم ياسر عرفات في صفوف المقاتلين المنضوين تحت لواء حركة "فتح" وجناحها العسكري "قوات العاصفة" وداخل صفوف الشعب الفلسطيني كزعيم لهذا التيار، ويؤكد "سليم الزعنون" هذا الإنجاز بقوله: "كان عرفات ينجز أعماله بنشاط كبير، فيتولى إنجاز وتنفيذ ما يزيد على ثلاثة أرباع جدول الأعمال (كما كان أيام رابطة الطلاب)، فضلاً عن أنه كان يقوم بإنجاز ما نعجز عن إنجازه في الثلث الباقي". في هذا الوقت تصاعدت العمليات العسكرية بين الفدائيين والقوات الإسرائيلية، وتزايد عدد المقاتلين في كل من الأردن، وسوريا ولبنان، وبتأييد من مصر، وازدادت، بحيث لم تعد إسرائيل قادرة على تحمّل تبعاتها، ففي صبيحة السادس من جوان 1967م، شنت هجماتها الجوية على القواعد العسكرية في مصر، في خطوة عدوانية استباقية على مصر، تبعها سقوط مدوياً للجبهات العربية في مواجهة إسرائيل. قلبت حرب جوان مفاهيم النزاع العربي الصهيوني، لا سيّما عندما احتل الجيش الإسرائيلي شرقي القدسوالضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى صحراء سيناء مصر، والجولان السورية، وتحمل عبد الناصر مسؤولية ما جرى خلال هذه الحرب، وقدّم استقالته، فشعرت الأمة بالمهانة أكثر من نتائج الحرب نفسها، وكأنها اعتراف بالهزيمة، فهبّت الجماهير المصرية، وغيرها في البلدان العربية للمطالبة بالعودة عن الاستقالة. وما أن سحب عبد الناصر استقالته حتى انعقد مؤتمر لحركة "فتح" في دمشق في 12 جوان لمناقشة جدوى وملاءمة استئناف الكفاح المسلح، اتخذ القرارت التالية: تفريغ عدد من قيادة الحركة، توجيه نداء لجمع السلاح، شن حملة تبرعات من الفلسطينيين العرب، إقامة قواعد فدائية في الأردنولبنان، السماح لياسر عرفات – بناء على إلحاحه – التوجه إلى الأرض المحتلة، وقيادة الانطلاقة الثانية لحركة "فتح". توجّه ياسر عرفات على رأس دورية، ودخل الأرض المحتلة من بلدة "الكريمة" على نهر الأردن، قبّل الأرض، وانطلق بعجل في داخل الأرض المحتلة، حيث قابل عدداً من أعضاء الحركة، ووزع تعليماته باليقظة الثورية وجمع الأسلحة وتخزينها، ونظم كثيراً من المتطوعين، وزار كثيراً من المدن وقراها، وجعل مقرّه مدينة القدس، وكان من مقرّه يتابع خلية النحل من المنظمين، وهم يعملون باستمرار خاصة أولئك المتسللين من غزة، فيعطيهم التعليمات والحذر. اكتشف العدو وجوده في الضفة فراح يطارده بكل قوّة واستنفار، ونجا من اعتقاله أو قتله أكثر من مرة. ويروي ياسر عرفات، إحدى الحوادث المؤثرة فيقول: "كنت في القدس، في الحرم الشريف قرب باب المغاربة الملاصق لبيت خالي سليم، وكنت مرتدياً الزي الفلسطيني التقليدي، الذي هو عبارة عن سروال، وقمباز، وسترة، وكوفية، وفجأة رأيت إحدى خالاتي، التي لم أكن قد رأيتها منذ زمن بعيد، تقف في الخارج، وبالنسبة إلي كانت المسألة الأصعب، أنني لا أستطيع أن أسلم عليها، لأنني إن فعلت سألفت الانتباه". ويستمر عرفات في سرد هذه الحادثة " أذكر الحزن الذي غمرني لأنني لا أستطيع مبادلتها السلام". * من الانطلاقة الثانية إلى قيادة "م. ت. ف" ترك ياسر عرفاتالضفة الغربية ليتابع مؤتمر القمة الرابع، الذي سيعقد في الخرطوم في الفترة 29 أوت – 1 سبتمبر، وما كان له من تأثيرات سيئة على مستقبل القضية الفلسطينية، من خلال الهزيمة التي منيت بها الدول العربية، فلأول مرة، "أصبح الحديث يدور حول الأرض المحتلة، الضفة الغربيةوغزةوسيناء والجولان و"العمل بالوسائل السياسية في المجالات الدولية والدبلوماسية من أجل إزالة آثار العدوان وضمان انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي العربية التي احتلتها بعد 5 جوان". وعلى الرغم من أن عرفات قد أيد هذه القرارات، إلا أنه أشار من ناحية أخرى، أن المواجهة مع إسرائيل من أجل تحرير فلسطين، يجب أن تظل قائمة، فقال محذراً: ومع ذلك يجب أن يظل هدفنا، هو "لا" واحدة، "لا لاسرائيل" "نعم لتحرير فلسطين". وفي مواجهة ذلك، قرّر ياسر عرفات ورفاقه في "فتح" القيام بحرب عصابات ضد القوات الإسرائيلية، وفي حين رفضت الدول العربية الأربع التي حاورها قادة "فتح"، باستثناء الجزائر، توجه عرفات لمقابلة الأسد، الذي كان وزيراً للدفاع، حيث أقنعه بأهمية القيام بمثل هذه الأعمال فوافق الأسد عليها. استعادت حرب العصابات نشاطها في الحادي والثلاثين من شهر أوت العام 1967 تحت عمليات عدة: وضع متفجرات، كمائن، مهاجمات بالقذائف والقنابل اليدوية، مسببة ضحايا في معظم الأحيان، باعثة القلق والفوضى في المحيط المدني والحكومي الإسرائيليين. وبعد تمركز الفدائيين على الضفة الشرقية لنهر الأردن، أخذوا يطلقون نيران البازوكا والاّر بي جي تجاه المستعمرات اليهودية التي أنشئت في الضفة الغربية، فيرد عليهم الإسرائيليون بأعمال ثأرية وانتقامية ضد المعسكرات الفلسطينية والمخيمات المقامة في شرق الأردن. وفي جانب آخر، كانت السلطات الإسرائيلية تجيب على المظاهرات والاحتجاجات التي تجري في الأرض المحتلة، بالاعتقال والتعذيب وتوقيف المئات. لكن القيادة الإسرائيلية كانت قد قررت القيام بهجوم واسع لتطهير منطقة الأغوار من الفدائيين، وحدث أن أنفجر لغم في منطقة الأغوار في حافلة للتلاميذ، في 18 مارس 1968، أدى إلى مقتل طبيب وتلميذ مدرسة وجرح 29 تلميذاً، استغلت إسرائيل هذا الحادث، وقررت القيام بعملية واسعة للتخلص من الفدائيين شرقي النهر، خاصة في منطقة الكرامة، المعقل الرئيسي للفدائيين في الأغوار. ليلة الهجوم على الكرامة، كان عرفات يشجع مقاتليه على الصمود ويشد من أزرهم ويلهب حماسهم بقوله: "سوف نقاتل بشرف الأمة العربية التي تتطلع إلينا، سوف نضع حداً لأسطورة الجيش الذي لا يقهر"، فوجئ العدو بصلابة المواجهة والكمائن التي أقامها الفدائيون للإيقاع بجنود وآليات ومظليي القوات المهاجمة، ووصل الإصرار عند الفدائيين إلى درجة تفجير أنفسهم بآليات العدو. أوقعت العملية 128 شهيداً فلسطينياً وعشرات الجرحى، وتدمير 170 بيتاً، وأسر 150 أسيراً ،تبين فيما بعد أن غالبيتهم من المدنيين. ومن الجانب الأردني الذي شارك بفعالية في هذا المعركة، خاصة بواسطة سلاح المدفعية، فقد تكبد 61 شهيداً ونحو 100 جريح. أما الإسرائيليون فقد تكبدوا – بحسب اعترافهم – 30 جندياً وجرح نحو80 آخرين، وطائرة، واضطروا إلى ترك أربع دبابات في أرض المعركة. برغم فداحة الخسائر، إلاّ أن المعركة سجّلت تحولاً مهماً، فقد مني الإسرائيليون بفشلٍ ذريع، لم يتعودوه في السابق. وكذلك، افتتح ياسر عرفات في عمان لكّل من الإعلام والعلاقات العامة، والخدمات الطبية، والرصد الثوري (المخابرات) والشؤون العسكرية ومكاتب أخرى، فنمت "فتح" لتصبح حركة كبيرة، هي قلب حركة التحرر الوطني الفلطسنيي ومركزها، وما هي إلاّ فترة وجيزة حتى تزايد عدد المقاتلين في المخيمات، وتعززت الميليشيات التابعة للعمل الفدائي، وصدرت مجلة "فتح" النشرة الداخلية عن الإعلام المركزي للحركة، والتي وزعت بأعداد كبيرة، وأصبح ياسر عرفات هو الناطق الرسمي بلسان حركة التحرير الوطني الفلسطيني، "فتح". في ضوء ذلك، انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الرابعة في القاهرة، جويلية 1968، قرر استمرار أعمال اللجنة اللجنة التنفيذية (التي انتخبت في نهاية المؤتمر الثالث) التي يرأسها يحيى حمودة في ممارسة صلاحياتها، في تنفيذ ما اتفق عليه، وأرجأ انتخاب لجنة جديدة إلى المؤتمر القادم، ما إن تكرّست هيمنة "فتح" ومنظمات الكفاح المسلح على المجلس الوطني، حتى جاءت الدورة الخامسة بعد سبعة شهور في فيفري 1969 فانتخبت لجنة تنفيذية تمثل المنظمات ضمت عدداً من المستقلين، جاءت على النحو التالي: 4 ممثلين عن "فتح" من بينهم رئيس اللجنة التنفيذية (ياسر عرفات)، واثنان من الصاعقة، وثلاثة من المستقلين ،وواحد عن منظمة التحرير السابقة، وقد احتلت "فتح" إلى جانب الرئاسة، الدوائر العسكرية والسياسية والتنظيم الشعبي في المنظمة. يتبع