الشرق الأوسط الجديد ما يجدر الإشارة إليه أن مؤشرات العبث الإقليمي وتغيير التحالفات الدولية وتأثيراتهما على المنطقة، جاءت سابقاً نتاج لحربين عالميتين، وإملاءات المنتصر، أما الحرب الكونية الثالثة فنرى آثارها دون سماع دوي أسلحتها التي تَستَخدِم أدوات القرن الحادي والعشرين، وساحة معركتها الرئيس هي منطقة الشرق الأوسط والمناطق الجغرافية الأكثر قرباً منها؛ صحيح أن في بعضها مدافع وأسلحة تقليدية، لكنها الأدوات التي باتت لازمة لتمرير ما صار دوي صداه عالياً حول ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد "السياسة والاقتصاد والاعمار يا سادة"، وللتوضيح فقط فإن الشرق الأوسط الجديد لا يعني دولاً عربية فقط، بل يضم أيضاً تركيا وإيران!!، من هنا نرى ماذا تعني حرائق كونداليزا رايس في سوريا والعراق مثلاً.
كيسنجر يؤكد المؤامرة ونستحضر في هذا المقام داهية السياسة الأمريكية هنري كيسنجر؟، الذي قال في حوار أجرته معه جريدة "ديلي سكويب" الأمريكية " في بداية هذا العقد وتحديداً في 27 نوفمبر 2011 "إن الحرب العالمية الثالثة باتت على الأبواب، والأصم من لا يسمعها، وإيران ستكون هي ضربة البداية في تلك الحرب، التي سيكون على إسرائيل خلالها أن تقتل أكبر عدد ممكن من العرب وتحتل نصف الشرق الأوسط"، و "عندما تتحرك الصين وروسيا من غفوتهما سيكون (الانفجار الكبير) والحرب الكبرى قد قامت، ولن تنتصر فيها سوى قوة واحدة هي إسرائيل وأمريكا».
ياسر عرفات.. عنقاء فلسطين وسط هذا كله، تنبه الرئيس الراحل عرفات بفطنته وحسه السياسي المرهف لحجم المؤامرة، وباعتباره الشخصية الكاريزماتية القادرة على التأثير إقليمياً ودولياً، سياسياً وجماهيرياً، ولأن القدس والقضية الفلسطينية هي "مربط الخيل" كما يقال، ولأن من سيدفع ثمن هذه المؤامرة الشعب الفلسطيني، تماماً كما دفعها في الحربين الأولى والثانية، من بلفور إلى الانتداب، وتدريب القتلة والمرتزقة على أيدي الجيش البريطاني، إلى التقسيم إلى النكبة. أطلق ياسر عرفات صرخته الأولى مدوية عندما غادر لبنان مع قوات الثورة الفلسطينية، عندما سئل إلى أين تذهب يا "أبا عمار"، فأجاب إلى فلسطين، هي نبوءة السياسي العارف بدهاليز السياسة الدولية، أما صرخته الثانية فكانت من مقره المحاصر في رام الله حينما قال للعالم أجمع، وخص القادة العرب " نحن أمام مؤامرة جديدة للمنطقة وسايكس بيكو جديد"، فحيل بينه ومواصلة الحراك، وحيكت له المؤامرات، من اعتباره " grata non Persona " ، ومُنع من التحرك أو حتى المشاركة في القمة العربية، قمة بيروت في مارس2002، التي أقرت مبادرة السلام العربية مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز.
"أبو مازن" .. سنكمل المشوار ومن جديد متسلحاً بإرادة شعبه، مؤمناً بأن عامل الوقت الذي يراهن عليه البعض، لم يعد رهاننا؛ اعتلى الرئيس "أبو مازن" منبر الأممالمتحدة في 20 سبتمبر 2017، وبصوت غير معهود يضع الجميع أمام مسؤولياته، يقدم جردة حساب بعد أربعة وعشرون عاما على توقيع اتفاق أوسلو الانتقالي الذي حدد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي بعد خمس سنوات، بصوت واضح يقول " لن نقف مكتوفي الأيدي أمام الخطر الذي يستهدف وجودنا ويتهدد السلام والأمن في منطقتنا والعالم.. استمرار الاحتلال وصمة عار في جبين دولة إسرائيل أولا، والمجتمع الدولي ثانيا، وعلى الأممالمتحدة مسؤولية إنهائه وتمكين شعبنا من الحرية".
فهل هذا كثير؟ ما لا يدركه الآخر أن القيادة الفلسطينية وإن تمايزت في ولوج المسارات، فإن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس على حدود الرابع من جوان عام 1967، والتطبيق الأمين والعادل للقرار194 المتعلق بحق العودة، وتحرير أسرانا البواسل من سجون الاحتلال الإسرائيلي، سيبقى المقصد الأول، والهدف الذي لا عودة عنه، وهو قليل الكثير من إرثنا الحضاري الانساني على أرضنا الفلسطينية العربية التاريخية الإسلامية المسيحية. ما يستوجب التنويه، قد يعتقد البعض من الأشقاء أن القضية المركزية باتت عبئاً ثقيلا، وهو ينوء تحت ثقل عبئه وخلاصه الشخصي، وحتى لا تضيع تضحيات شعبنا وأمتنا العربية، نقول لهذا البعض أن عليه مغادرة مساحته الرمادية، لأن القبول بإدامة الحالة الراهنة وشراء الوقت التي راهنت عليها إسرائيل والولايات المتحدة يتطلبان التوقف ملياً أمام حقيقة أن "الكيان الإسرائيلي" هو العقبة أمام تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، مثله مثل "داعش" الذي أُنشأ لأهداف استعمارية، فلتفخر تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، بإرث أجدادها الاستعماري وإقامة الكيان الإسرائيلي، ولتحتفي بوعد انتهاك حقوق الإنسان ولصوصية القرن العشرين المسمى بوعد بلفور، فهو عارهم المتوج بحفاوتهم الرخيصة. أما نحن، فلسطينيون عرباً، نفخر بإنجازات شعبنا وقيادتنا، وسنحتفي بدولتنا المعمدة بدماء الشهداء وعلى رأسهم القادة، مرابطين مدافعين عن أولى القبلتين وبوابة السماء.
عرفات وعباس.. شكراً للجزائر وسيبقى ياسر عرفات الذي تهدج صوته معلناً قيام دولة فلسطين من على أرض الجزائر الأبية، وفي أحضان الشعب الجزائري الدافئة، خالداً في تاريخ فلسطين الحديثة، ورمزاً نضالياً عالمياً، جاب العالم لتحقيق نبوءة شعبه. ويواصل رفيق درب الثورة والمسيرة "أبو مازن" قيادة دفة المركب الفلسطيني نحو بر الأمان، ولأنها الجزائر بلد الشهداء والأحرار، يردد الرئيس محمود عباس، أن "الجزائر" بلد الأحرار صدقت وعدها مع فلسطين، وسيبقى شعبنا حاملا بشغاف القلوب حباً للجزائر الشقيق شعباً وقيادة.
————————————— * ياسر عرفات … من إعلان الاستقلال في الجزائر إلى العودة للوطن جهاد أحمد صالح
عندما غادر ياسر عرفاتبيروت في 30 أوت عام 1982م، على متن السفينة اليونانية "أطلانتس" مع آخر مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين الذين تم ترحيلهم والبالغ عددهم 11 ألف مقاتل، سأله أحد الصحفيين: إلى أين تمضي يا أبا عمار؟، فكان الجواب: إلى فلسطين، إلى القدس. هل كان هذا حلم القائد الفلسطيني الذي خاض كل معارك الثورة المعاصرة، أم نتيجة ما حققته الثورة من إنجاز على الصعيد السياسي، النابع من فلسفة الثورة وفكرها المتقدّم رغم خسارتها لأرض في غاية الأهمية لاستمرار عمل الثورة والثوار. لقد تلقت الثورة ممثلة بقيادة «م. ت. ف» ضربة قوية من الناحية العسكرية بعد الخروج من بيروت، لكنها خرجت من هذه المحنة الرهيبة قوية سياسياً ومعنوياً، وحصلت على اعترافات عالمية جديدة، وكبيرة، بعدالة قضيتهم، وأصبحوا يتحكمون بالمبادرات السياسية والدبلوماسية، وكانت معركة بيروت قد أكسبت عرفات والثورة احتراماً واسعاً لدى الرأي العام العالمي، ورفعت من قيمة منظمة التحرير الفلسطينية في العالم العربي الذي يشعر بعقدة الذنب، لأنه لم يحرك ساكناً خلال الاجتياح الإسرائيلي، ومعارك بيروت، وكان من نتيجته الاعتراف بمؤتمر القمة العربي في فاس المغربية، بأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. هذا الإعتراف، كان لا بد له أن يتواصل في ظل خلاف عربي أفرزه المؤتمر، وتداعيات هذا الاختلاف وانعكاساته في الساحة الفلسطينية، وتليين بعض المواقف في «م. ت. ف»، ما أدى الرئيس ياسر عرفات القيام بزيارات واتصالات دبلوماسية لا تتوقف أدت إلى تأييد «م. ت. ف» على الصعيد الدولي، خاصة على الجانب الأوروبي بهدف الضغط على الجانب الأمريكي. وفي لحظة تاريخية، أدرك عرفات ومن معه، أن العمل داخل الأرض المحتلة هو الطريق الأسلم والمحرّك لكل هذا الهجوم الدبلوماسي والإنجازات السياسية، فانطلقت الانتفاضة العارمة في الأرض المحتلة، وتصاعدت بقوة أذهلت العالم، اشترك فيها كافة أبناء الشعب الفلسطيني بكل طبقاته وفئاته، في تأييد منظمة التحرير الفلسطينية من جهة، وفي رفض كافة الإجراءات الإسرائيلية العسكرية والمنية والسياسية والإدارية من ناحية ثانية. وكلما تصاعدت الانتفاضة تزايد التأييد والانحياز لمطالبها في الحرية والاستقلال في الداخل والخارج، ما خلق واقعاً لا يمكن تجاوزه، يؤدي في النهاية إلى عزل إسرائيل وأمريكا في زاوية سياسية لا يمكن الدفاع عنها، رغم كل الإجراءات ومحاولات الإلتفاف الضاغطة والمناورات التي بدت مكشوفة أمام الرأي العام العالمي. في هذه اللحظة التاريخية، وقف ياسر عرفات في الجزائر التي حضنت الثورة الفلسطينية، وقضية الشعب الفلسطيني، بكل هيبة وثقة، في الخامس عشر من نوفمبر من العام 1988م، أمام المؤتمر الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة عشرة ليقول: "إستناداً إلى الحق الطبيعي والتاريخي، والقانوني للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين، وتضحيات أجياله المتعاقبة دفاعاً عن حرية وطنه واستقلاله، وانطلاقاً من قرارات القمم العربية، ومن قوة الشرعية الدولية التي تجسدها قرارات الأممالمتحدة، منذ عام 1947م، وممارسة من الشعب العربي الفلسطيني لحقه في تقرير المصير والاستقلال السياسي، والسيادة فوق أرضه، فإن المجلس الوطني، يعلن بسم الله، وباسم الشعب العربي الفلسطيني قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف". كان الانفعال والتأثير عظيمين، حين قراءة هذا الإعلان المهيب للاستقلال في قاعة المؤتمرات في الجزائر. هذا الإعلان الذي أشرف على صياغته النهائية الشاعر الكبير محمود درويش، الذي رافق عرفات خلال هذه اللحظات المهمة والعظيمة. وعندما رفع العلم الفلسطيني في قاعة المؤتمر، تفجرت حالة من الهياج بالفرحة، فمن الوفود والضيوف من أخذ بالهتاف فرحة وبهجة، ومنهم من بكى، ومنهم من عانق جاره بعفوية، ومنهم من اختنق صوته بالدموع، كانت من أكبر اللحظات وأسعدها، ما ختم تلك الدورة للمجلس الوطني الفلسطيني التي تستحق بكل كفاءة، أن يطلق عليها بالدورة التاريخية التي شهدت في قاعة الجزائر للمؤتمرات. تخللها ثلاثة أيام من المعارك السياسية المهمة والكبيرة رافقت الإعلان عن الاستقلال، وطرحت برنامجاً جديداً لمنظمة التحرير الفلسطينية يأخذ في اعتباره المستجدات الإستراتيجية الحقيقية لمثل هذا الاستقلال، الذي أيّده 318 عضواً من المؤتمر، وعارضه 46 صوتاً، وامتنع عن التصويت 19 عضواً، علماً أن (إسرائيل منعت مشاركة ممثلى غزة والضفة الغربية من حضور أعمال المؤتمر). ثلاثة أيام ساخنة قضاها عرفات والقيادة المؤيدة له في انتزاع هذا التأييد شبه الشامل لمؤتمر الجزائر، ما جعله يصرح للصحفيين أمام بعض الضيوف: "نعم هذه هي الديمقراطية، نحن فخورون بدمقراطيتنا العملية".