العبرة في التفضيل ليست بكثرة المعارف والمحفوظات، وإنما بجودة الفقه وصحة الفهم وسلامة الإدراك يقوم الرشد على ثلاثية ذهبية قاعدتها الفهم والعمل، ورأسها الوعي وضبط العلاقة بين هذه الثلاثية، هو فن يقوم به عقل راجح ومتزن وحكيم يحسن تصميم التوليفات المتوازنة من الآليات والوسائل والخطط، حيث تصبح كل مفردة ومكون في المنظومة لها مدلولها العلمي والعملي، فإذا حدث الخطأ تتحرك آلية التنبيه والتصحيح والتصويب آليا. والفهم في لغة العرب معناه: العلم بالشيء ومعرفته، قال في لسان العرب: الفهم معرفتك الشيء، وجاء في مختار الصحاح.. فهم الشيء أي علمه. فالمراد بالفهم عن الله ورسوله، أي العلم والمعرفة بمعاني كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والفقه أخص من الفهم. قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: والفقه أخص من الفهم، وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وضع اللفظ في اللغة. والمقصود بمراتب الفهم درجاته، فإن الناس يختلفون في الفهم، فبعضهم أعلى درجة في الفهم من الآخر، فقد يفهم العالم من النص القرآني أو الحديث النبوي معنى لا يفهمه عالم آخر. قال ابن القيم رحمه الله: وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله، ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء في العلم، ولما خص سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث، وقد أثنى عليه وعلى داود بالعلم والحكمة، وقد قال عمر لأبي موسى في كتابه إليه: الفهم الفهم، فيما أدلي إليك. وقال علي: إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه.. إلخ. وانظر كلامه عن الفهم ومراتبه في كتابه مدارج السالكين، (1/241) الفصل الخامس.. فإنه كلام نفيس. وأما مناطات الفهم، فإننا لم نجد من أهل العلم من استخدم هذه العبارة، ولكن على وجه العموم المناط هو ما يعلق عليه الشيء، وفي اللغة: ناط الشيء أي علقه، ويقال -مثلا- العقل مناط التكليف، أي أن التكليف معلق بالعقل، فإذا وجد العقل وجد التكليف، وإذا انتفى العقل انتفى التكليف. وهكذا الفهم الصحيح، فإنه معلق على وجود أشياء منها: التمكن من العلوم الشرعية وعلوم الآلة كعلم اللغة وأصول الفقه وأصول التفسير ونحو ذلك. وقبل ذلك وبعده لجوء العبد إلى ربه أن يرزقه الفهم عنه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، يدعو ويقول: اللهم يا مفهم سليمان فهمني..
ليس الفهم فقط ….بل العمق والاتساع لم تكن الحاجة ماسّة إلى الفهم العميق في يوم من الأيام كما هي اليوم، كما يقول الدكتور عبد الكريم بكار؛ فالمعلومات متوفرة إلى حد التخمة، وصار الفارق الواضح بين إنسان وآخر يتمثل في مقدرته على الفهم، والاستفادة من تلك المعلومات على نحو حسن، وهذا لن يتم إلا من خلال امتلاك مركّب عقلي جديد، ذي بنية مميزة، ومهمة التربية أن تساهم في تكوين تلك البنية وصقلها، وسنذكر هنا بعض المسائل ذات العلاقة بذلك: أ – إن أول عمل علينا أن نقوم به هو أن نقلع الأشواك من الأرض الطيبة التي نريد أن نزرعها. كثيراً ما نعمد إلى محاولة تلقين الطلاب بعض المبادئ المنطقية، أو نشرح لهم بعض أساليب التفكير، وعند النظر في مدى التأثير الذي يتركه ذلك في تصحيح تصوراتهم نجد أنه محدود جداً. وقد رأينا كثيراً ممن يدرِّس علم (المنطق) وكثيراً ممن درسه، ورأينا أن تفكيرهم يفتقر إلى بعض البدهيات التي يحتاجها التفكير القويم، ولذا فإن من الصحيح أن يركز المربي في البداية على إلقاء الأضواء الكاشفة على الأفكار والرواسب السابقة ، والمفاهيم والعادات العقلية والنفسية التي تحول دون الرؤية الصحيحة، مثل التعصب والمبالغة والرؤية النصفية، والميل إلى التبسيط والانغلاق، والخضوع للمقولات الشائعة، والتعامل مع الواقع على أنه كتلة صلدة …