العدل من الأخلاق النبويّة والشمائل المحمديّة التي اتّصف بها - صلى الله عليه وسلم - ونشأ عليها ، عدلٌ وسع القريب والبعيد ، والصديق والعدوّ ، والمؤمن والكافر ، عدلٌ يزن بالحقّ ويقيم القسط ، بل ويحفظ حقوق البهائم والحيوانات ، إلى درجة أن يطلب من الآخرين أن يقتصّوا منه خشية أن يكون قد لحقهم حيفٌ أو أذى ، وهو أبلغ ما يكون من صور العدل. وبين يدينا موقفٌ من المواقف التي تشهد بعظمته - صلى الله عليه وسلم - ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم شيئا ، أقبل رجل فأكبّ عليه ، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون -وهو عود النخل - كان معه ، فخرج الرجل ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تعال فاستقد أي اقتصّ مني ) ، فقال الرجل : قد عفوت يا رسول الله) رواه النسائي . ومن داخل بيت النبوّة تبرز صورٌ أخرى للعدالة النبوية ، خصوصاً مع وجود الخلاف الطبيعي والغيرة المعروفة بين الضرائر ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : '' أهدت بعض أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم - إليه طعاما في قصعة ، فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : ( طعام بطعام ، وإناء بإناء) رواه الترمذي، وأصله في البخاري . ومن صور عدله - صلى الله عليه وسلم - العدل بين زوجاته حينما قام بتقسيم الأيّام بينهنّ ، وكان يقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب ) رواه أبو داوود . كذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا عقد العزم على السفر والمسير اختار من تذهب معه بالقرعة، كما تروي ذلك عائشة رضي الله عنها : '' كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها '' متفق عليه ، يقول الإمام المناوي معلّقاً : '' ( أقرع بين نسائه ) تطييبا لنفوسهن ، وحذرا من الترجيح بلا مرجّح عملاً بالعدل '' . وفي ظلال المنهج العادل للنبي -صلى الله عليه وسلم- عادت الحقوق إلى أصحابها وعلم كل امرئ ما له وما عليه ، وشعر الناس - مسلمهم وكافرهم - بنزاهة القضاء وعدالة الأحكام ، بعد أن وضع - صلى الله عليه وسلم - نظاماً رفيعاً وسنّة ماضية تقيم الحقّ وتقضي بالعدل ، منهجٌ فيه النصرة للمظلوم ، والقهر للظالم الغشوم ، فلا الفقير يخشى من فوات حقّه ، ولا الغني يطمع في الحصول على ما ليس له ، ولا الشافعون يطمعون في درء حدٍّ من حدود الله تعالى ، ويشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فيقول (ومن يعدل إن لم أعدل ؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل) متفق عليه واللفظ لمسلم . في يوم بدرٍ أغلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فداء عمّه العباس بن عبدالمطلب حتى بلغ مئة أوقية ، ولم يقبل أن يتنازل الأنصار عنه شيئاً ؛ حتى لا يظنّ ظانّ أن القرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنفع صاحبها. وعندما أراد النعمان بن بشير رضي الله عنه أن يُشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم على هبةٍ لأحد أولاده قال له : ( يا بشير ألك ولد سوى هذا ؟ ) فقال له : نعم ، فقال له : ( أكلهم وهبت له مثل هذا ) ، قال : لا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : ( فلا تُشهدني إذاً ؛ فإني لا أشهد على جور ) رواه مسلم . وخوفاً من تفويت حقوق البعض - لاسيما في القضاء - يقول النبي صلى الله عليه وسلم - : ( إنكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض أي : أقدر على إظهار حجّته - ، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها ) متفق عليه . ويقرّر النبي - صلى الله عليه وسلم - حقوق الضعفاء ، ويحذّر الناس من بخسها فيقول : ( إخوانكم خَوَلكم - أي من يخدمونكم - جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم ، فإن كلّفتموهم فأعينوهم ) رواه البخاري ومسلم ، ويقول أيضا : ( إذا جاء خادم أحدكم بطعامه فليقعده معه ، أو ليناوله منه ؛ فإنه هو الذي ولي حرّه ودخانه- أي الذي باشر الطباخة متحمّلاً الأذى الحاصل من الحرارة والدخان - ) رواه ابن ماجة . بل حتى الحيوانات كانت تنال حظاً من رعايته - صلى الله عليه وسلم - وعدله ، فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائطا لرجل من الأنصار ، فإذا جمل ، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح عليه فسكت، فقال : ( لمن هذا الجمل ) ، فجاء فتى من الأنصار فقال : لي يا رسول الله ، فقال له : ( أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها ؛ فإنه شكى إليّ أنك تجيعه وتدئبه أي تتعبه ) رواه أبو داوود . هذا هو سيّد الأنبياء وإمام الأتقياء - صلى الله عليه وسلم - ، وهذه جوانب من سيرته العطرة محفوظةٌ في ذاكرة التاريخ وفي ضمير البشريّة ، شاهدةٌ على قسطه وعدله .