انتهت الحرب الإعلامية المصرية واستهلك المصريون مخزون الشتائم والألفاظ العنصرية والتحريض العلني على القتل والمطالبة بالانتقام الفوري لكرامة المصريين من ''الهمجيين الجزائريين ''. ولم نسمع خلال الأسبوع الأخير إلا عبارات بالية من قاموس كان قاب قوسين أو أدنى من القبر من شاكلة ''العلاقات الأخوية بين الشعبين أعمق من مباراة كرة قدم'' وغيرها من الجمل الجاهزة للاستعمال الدبلوماسي السريع ... الحقيقة أن توقعاتنا بشأن تراجع الدبلوماسية المصرية عن حملتها الشرسة تجاه الجزائر والتي استعملت فيها كل أسلحة الروائح الفاسدة في دكاكين الفتنة، كانت متواضعة بالنظر للنتائج الواقعية الباهرة خلال الأيام الأخيرة، وهي استدارة تصدمنا أكثر مما تثير فينا أية مشاعر أخرى. وكجزائري من بين الملايين الذين تابعوا بأسف حملة الإعلام المصري تجاه كل ما هو جزائري لم أكن أتوقع هذا التراجع السريع، لأن ''الأشقاء'' لم يتركوا لأنفسهم زاوية آمنة يمكن اللجوء إليها إذا ما ''استحوا على دمهم'' وقرروا العودة لجادة العقل والصواب، ومع ذلك فقد أشارت صحيفة ''الوفد'' في خبر ثلاثة أرباعه كذب كالعادة بأن الوساطة التي أجراها اتحاد العلماء بين الرئيسين وكذا جهود الرئيس الليبي وشيوخ القبائل (لست أدري من أين جاء صحفي الوفد بمصطلح ''شيوخ القبائل'' في الجزائر) أدت إلى الانفراج وعاد إلى الجزائر حسب الصحيفة قرابة 6000 خبير مصري. ونحن نعرف طبعا نوعية الخبراء الذين يشتغلون في المؤسسات المصرية بالجزائر، وتوالت تصريحات التهدئة من قبل الوزراء والمسؤولين المصريين بذات الطريقة التي انطلقت بها الحملة المسعورة، فشهدنا دخول رئيس الوزراء احمد نظيف على الخط بعبارة ''العلاقات المصرية الجزائرية عميقة وأبدية ولا تتأثر بكرة القدم''، ثم تلاه وزير الخارجية أبو الغيط الذي ركز على ''التهدئة والمحبة بين الشعبين والتعويضات أيضا''، وختمها الرئيس مبارك شخصيا بالمصادقة على كل ما جاء على ألسنة وزرائه دون العودة إلى ما كانت تردده وسائل الإعلام استجابة لنداءات ابنيه جمال وعلاء ''المواطن العادي''.. وأمام هذا التراجع المفاجئ بات من الضروري التساؤل عن المحرك العملاق الذي دفع بأجهزة الدولة المصرية للتحرك دفعة واحدة في طريق التهدئة والتصالح بعد عاصفة إعلامية هوجاء لم تترك الأخضر الجزائري طيلة شهر كامل؟ هل من الممكن التصور أن صحوة ضمير مفاجئة يمكن أن تكون السبب الرئيس في عودة الدبلوماسية المصرية لجادة الصواب والتفكير بمنطق العقلانية في العلاقات التي تجمع البلدين والتخلي عن المطالبة باعتذار الجزائر والانتقام لكرامة الشعب المصري ''المهدورة'' في السودان؟ ومع أن إرجاع الأمر للضمير وصحوته يظل تفسيرا لاهوتيا لا علاقة له بالدبلوماسية والعلاقات الدولية، إلا أن البحث في الخطوات التي اعتمدها الطرف الجزائري في تسيير هذه الأزمة وتتبعها بروية يمكن أن يؤدي إلى فهم الأسباب القريبة للتراجع المصري... لم يصدر أي تصريح رسمي جزائري حتى مع انتقال الطرف المصري للتصعيد اللفظي الخطير عبر كل وسائل الإعلام المصرية، واستدعاء السفير المصري في الجزائر للعودة للقاهرة ولعل المتتبعين يذكرون أن التلميح الوحيد الذي جاء في حديث وزير الخارجية الجزائري بشأن الأزمة هو دعوته لنظيره المصري لضرورة التخلي عن مطلب ''تعويضات المصالح المصرية'' لشركات التأمين وليس للدبلوماسيين وهي حركة شطرنج أولى حول المال والتعويضات، وهل بمحض الصدفة تحدث الوزير الأول احمد أويحيى عن الشطرنج؟ ثم تلاها تصريح وزير الطاقة الجزائري شكيب خليل عن إنشاء شركة بترولية جزائرية مصرية وقال إن الشراكة بين البلدين قد تصل إلى استثمار ما يقارب العشرة ملايير دولار، وهي الحركة الثانية التي بدا أنها قلبت موازين الموقف الرسمي المصري من الأزمة وانفرجت الأمور كسحابة صيف وبشرنا ''أبو الغيط'' باقتراب عودة السفير المصري للجزائر، ولم أجد ربما كغيري من الجزائريين ما يمكن متابعته في قنوات الشتم طيلة الأيام الأخيرة بعد التوقف المفاجئ لأبطال المسرحية الهزلية الواقعية عن سيناريو الجزائر واستبداله بوصلات رديئة من جلد الذات. ودون البحث مطولا عن السبب المباشر في عودة الجانب المصري لجادة الحق والصواب خارج الطموح الممكن للاستفادة من عوائد الأزمة والتسوية المالية المحتملة والاستثمار والعمالة، فإنه يتوجب الاعتراف للدبلوماسية الجزائرية بالتفوق الكلي في إدارة هذه المسألة والتمكن من إطفائها بحركتين لا أكثر.. ومع عدم الانتقاص من دور الوزراء الجزائريين كل من جهته في المسألة، فإنه لابد من العودة لدور المايسترو الذي يلعب في صمت، والذي كان دبلوماسيا ناجحا يمثل بلدا عزيزا ثائرا في الوقت الذي كان الكثير من منتقديه في الطرف الآخر للأزمة يضعون حفاظات العمر الأول، شكرا سيادة الرئيس حقا ''رفعت لي راسي يا با وأب كل الجزائريين'' .