اختزلت فرنسا الساركوزية مشاكلها الدنيوية والأخروية في برقع أو نقاب ترتديه المرأة في عاصمة الجن والملائكة، ويبدو أن الحكومة الراشدة في باريس لم تستسغ ارتداء بضعة نسوة لهذا اللباس الغريب عن تقاليد وثقافة المجتمع الفرنسي المتغني بالأخوة والديمقراطية واحترام الحقوق والحريات الفردية والجماعية. وربما اعتقد الساسة الفرنسيون أن ظهور المتنقبات والمتبرقعات في شوارع باريس كما يظهر طيف مريم العذراء هنا وهناك يتنافى وحقيقة بلاد الجن والملائكة، وكأن لسان حال هؤلاء الساسة يصرخ بصوت جهوري على لسان رجل واحد كيف لهؤلاء أن يخشين الفتنة على أنفسن وعلى غيرهن والمجتمع الفرنسي مجتمع ملائكي أوليست البلاد هناك تدعى ببلاد الجن والملائكة؟، بل حتى الجن الفرنسي طوع ورهن إشارة الملائكة، ويمكن التوقف عند بعض المحطات للبرهنة على الإيمان النفاقي للساسة الفرنسيين، لأن هذا المجتمع الملائكي الذي تصان فيه الحقوق وتكبح فيه الشهوات وتصان فيه الأعراض في شوارع عاصمته ذات سبت من صيف 2003 أكثر من نصف مليون شاذ جنسيا في مسيرة حاشدة طالبوا خلالها بالمساواة مع غير الشواذ، وسن قانون يجرم العداء للشواذ جنسيا، مع ضرورة نزع نقاب وبرقع الأخلاق أو السماح بالمباح وغير المباح تحته، بسن قانون يسمح بزواج المثليين على غرار بعض الدول الأوروبية الأخرى. والملفت آنذاك أنه قد (شارك في هذه المسيرة -التي تأتي إحياءً للمسيرة السنوية التي يطلقون عليها ''مسيرة الفخر''- كل من رئيس بلدية باريس آنذاك ''برترن دانالوي''، ووزير الثقافة الفرنسي السابق ''جاك لونج''، إضافة إلى ممثلين عن الحزب الشيوعي الفرنسي والرابطة الشيوعية الثورية (أقصى اليسار). كما شارك في الصف الأمامي لتلك المسيرة ''جاك لاك ريمارو'' كممثل عن الحزب الاشتراكي الفرنسي الحاكم آنذاك، وذلك في سابقة تعد الأولى من نوعها في تاريخ اليمين الفرنسي. وتزامنت تلك الخرجة الكبيرة لهؤلاء من تحت برقع الأخلاق كما ولدتهم أمهاتهم مع استطلاع أجرته جريدة لوموند في نفس الفترة توصلت فيه إلى أن قرابة 50 بالمائة من الفرنسيين متسامحون جدا جدا مع ظاهرة الشذوذ الجنسي الملائكي طبعا. كما أوضح ذات الاستطلاع أن 86 % من الفرنسيين يقولون بأن من حق الشواذ أن يرث بعضهم الآخر مقابل 79 % كانوا يقولون ذلك عام ,2000 وتبنى 59 % من الفرنسيين الرأي الذي يقول إن للشواذ الحق في تبني الأطفال مقابل 37 % ضد ذلك، والأكيد ان الروح الملائكية قد زادت تطورا في المجتمع الفرنسي حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، في انتظار تحويل الفرنسيين أو فرنسا بأجمعها كبلد للطبيعيين وما أدراك ما الطبيعيين، لمن لا يعرف الطبيعيين الذين يجب أن لا نخلط بينهم وبين الماديين وربما سنعود إليهم في المرات القادمة. ولن نبرح جغرافيا ما تحت البرقع وفي نفس الفترة لنذكر مرة أخرى بالمسيرة الحاشدة التي خرجت فيها مئات بائعات الهوى بالإضافة إلى مساندة قوية من بعض أشباه الرجال الذين يشتركون مع أشابه النساء اللائي خرجن في المسيرة في المهنة الشريفة والعريقة والملائكية في عاصمة الجن والملائكة يطالبن فيها ويطالبون بضرورة تنظيم المهنة، واعتبار التحرش بالرجال في الشوارع والحافلات والأماكن العمومية على حد تعبير الساسة الفرنسيين داخلا ضمن دفتر شروط المهنة، وبالتالي كل تبرقع أو تنقب هو اعتداء على ملائكية الشوارع الفرنسية. المهم أن القاصي والداني يعلم أن الاتجاه نحو جغرافيا ما داخل البرقع والنقاب سياسة فرنسية أصيلة، زاد في إصرار وإلحاح الفرنسيين عليها وصف نظام الملالي والتشادور الإيراني للسيدة الفرنسية الأولى بالعاهرة، وما درى هذا النظام الرجعي على رأي التقدميين في شوارع باريس أن هذه المهنة شريفة ومصانة بل وملائكية في العرف الفرنسي، رغم أن زواج المتعة وكارلا بروني شعرتان صفراوتان رفيعتان في رسم العلاقات البينية بين باريس وطهران. لكن في خضم هذه الجولة الجغرافية في المفاهيم الملائكية على الرواية الباريسية أستغرب لحال فرنسا التي كانت من أشد المدافعين عن البرقع والنقاب لما كان عسكرها يعيث في أرض الجزائر فسادا، والآن هي كما أعلم وتعلمون، فبربكم من يفسر لي إقدام فرنسا أثناء الحرب التحريرية المباركة في الجزائر على تشجيع سياسة البرقع والنقاب تحت مسمى ''بوشكارة''، بل إنها أرادت تنقيب وبرقعة الشعب الجزائري عن بكرة أبيه رغما عن أنفه ولكن خاب مسعاها على يد الأشاوس والقناعات الراسخة، واليوم ندرك تمام الإدراك أن فرنسا الساركوزية تخشى أشد الخشية من افتراق مفهوم ''بوشكارة'' عن البرقع والنقاب فكان اللجوء إلى جغرافية ما تحت البرقع الأسلم، وكل عام وفرنسا الفاضحة المفضوحة بلا ستر في جو من الإيمان الملائكي.