غالبا ما يسافر الكاتب المصري جمال الغيطاني في نصوصه إلى ازمنة عاشها ولم يعشها وأمكنة يعرفها ولا يعرفها بحثا عن المزيد من الأسئلة الفلسفية الموحية برؤياه العميقة. ومنذ أولى رواياته '' الزيني بركات '' كرس المبدع لغته لاستجلاء لحقائق ومساءلة الهموم الإنسانية .. هذا جعل من نصوصه قطعا ابداعية متفردة عامرة بزخم الحياة وبأسئلة الوجود ما جلب إليها فضول النقاد والمتتبعين للحركة الادبية عامة ومنهم الناقد سعيد توفيق الذي شغف بانتاجات الغيطاني حد تأليفه لستة اجزاء اسماها ب''دفاتر التدوين'' شرح فيها اعماله على مدى مسيرته ورواياته، مسلطا الضوء على مكونات عالمه الإبداعي. وقد تضمن مؤلفه الذي صدر حديثا عن دار العين شروحات وتفصيلات مثيرة لمؤلفات الغيطاني وومضاته التي تمس اشياء الحياة البسيطة وتغوص في أعماق الواقع والتجارب العادية وهذه التقنية وصفها الأستاذ بالخدعة او المخادعة مما يوحي بغموض الروائي وغرائبية طروحاته حتى أنك كثيرا ما يختلط عليك الأمر ولا تعود تفرق ان أنت أمام عمل روائي أم أنت بصدد قراءة جنس آخر من الكتابة يلزمك فكرا آخر وعمقا آخر ونظرة أخرى لتحسم أمرك من النص الذي امامك .. فصول الدفتر كتبت بالتجزئة دون اللجوء إلى ادخال تصحيحات عليها. ومما جاء في اولها مثلاً: ''نحن أمام عمل يبدو لنا أنه رواية، لكننا منذ الصفحات الأولى ندرك على الفور أننا لسنا أمام رواية في المعنى التقليدي المتعارف عليه، وهو انطباع يتأكد بقوة كلما أوغلنا في العمل: أعني أننا لن نجد هناك بناءً درامياً تتفاعل فيه الشخصيات وتتصاعد في تراتب زمني منطقي''. ولعل البحث عن تصنيف البناء السردي أصبح معضلة بالنسبة إلى كثير من النقاد، وقد خرجت الكتابة الروائية في العقود الثلاثة الأخيرة في شكل واضح على العباءة المحفوظية السميكة. وهذا الخروج لم يقتصر على جيل واحد، بل سلكته الأجيال المتعاقبة، بدءاً من إدوار الخراط، وجمال الغيطاني وعبد الرحمن منيف ويوسف القعيد والطاهر وطار، إلى الأجيال الحديثة (منتصر القفاش، مصطفى ذكري، هدى بركات، حمدي أبوجليل، وغيرهم). ويستنتج الناقد في الأخير ان نص الغيطاني ملغزاً على المستوى البنائي موضحا ان المغامرات الروائية لا تأتي كلها بثمار إيجابية، ولكن تبقى تجارب مثيرة. وعاين سعيد توفيق تحت مجهره الخرجات الفلسفية للغيطاني مستحضرا مقولات لسارتر وهيدغر وهوسرل، مما جعله يقر بأن الغيطاني توصل في نصوصه إلى حلول فلسفية عبر الإبداع بلا قصد دون الاعتماد على هذه الفلسفة أو تلك. ففي ''خلسات الكرى'' يركز الروائي وهو ينقب على الجمال الأنثوي على البحث في معنى الوجود، وبحث في تفاصيل الحياة ذاتها، والمرأة البعيدة هي الكاشفة، والمرأة القريبة أكثر غموضاً. يقول الغيطاني: «ليس الجمال الأنثوي إلا إشارة وتلميحاً إلى عذوبة الكون المتكون بالفعل والمحتمل أيضاً، أنفقت عمري في التشوق إليه، غير أنني لم أرتو ولم أنل حظي''. ثم يستطرد في موضع آخر: ''أعرف أن الوعي بسر النغم يعني تلاشيه، وأن الإمساك بالإيقاع إيذان بفنائه''. أما الدفتر الثاني ''دنا فتدلى'' يظهر القطار في عالم الغيطاني كرحلة في الزمان والمكان والروح، فالقطار/ الرحلة، ليس جغرافياً فحسب، بل الجغرافيا تستخدم كمساحة فلسفية وإبداعية للبحث عن معنى الوجود وجدواه، لا أحد له علم بنهايته متى تكون وكيف تكون ؟. ويغوص الغيطاني في الدفتر الثالث ''رشحات الحمراء'' في مناخات حميمية حسية ''إذ تبسط يدها نحوي، تبتسم لي، أدخل في محيط عطرها، عبيرها الخاص، أول فواح أنثوي ينفذ إليّ، لم أقرن به أي نسيم آخر، تماماً مثل نزوعي إليها''. ويؤكد الناقد أن هذه التجارب المستخلصة من محيط الكاتب وونشاته الاجتماعية والروحية جعلت الغيطاني يدمن السؤال بشكل كاشف وصريح ومراوغ عن مصير الأمس: أين ذهب الأمس؟ هذا السؤال الذي حيّر الغيطاني عبر كل إبداعاته الروائية يعود ليطل برأسه كلما كتب نصاً جديداً. ويؤكد هذا السؤال في دفاتره الثلاثة التالية: ''نوافذ النوافذ» و''نثار المحو'' و''رن''. عبر لغة مفعمة بالحيرة، وبيئة زاخرة بجماليات الغموض.