قبل عامين أهداني المترجم الايسلاندي آدم نيكولس كتابا بديعا مزيّنا بخرائط وصور نادرة، يحمل في نسخته الإنجليزية عنوان ''رحلات الأب أولافور إغيلسن ''Olafur Egilsson''، المعروف في إيسلاندا والدانمارك ب ''The turkish abductions'' أهملته في مكتبتي، وعدت إليه مؤخرا. ولمّا فرغت من قراءته اكتشفت فاجعة إنسانية لا نظير لها في التاريخ، وملخّصها أن قراصنة الجزائر العاصمة ومدينة سالا المغربية بلغوا بقيادة مراد رايس، في صيف 1627، شواطئ جنوب إيسلاندا التابعة آنذاك لمملكة الدانمرك، وأسروا مئات الرجال والنساء والأطفال، واقتادوهم إلى الجزائر لبيعهم عبيدا. وكان بينهم الأب أولافور إغيلسن وزوجته آستا بورستنسدوتير، وأبناؤه الثلاثة. بعد وصولهم إلى الجزائر في ظروف مأساوية، اضطر الأب أولافور إلى العودة إلى كوبنهاغن لافتداء أسرته لدى ملك الدانمارك كريستيان، فرحل إلى هناك في حالة يرثى لها من الجوع والإملاق عبر إيطاليا، ثم مارسيليا فألمانيا وهولندا، وأخيرا بلغ الدانمارك التي وجدها غارقة في حرب داخلية. ولم ينجح في جمع المال اللازم لعتق أسرته، فدخل بلده خائبا مهيض الجناح. الكتاب هو وصف لهذه الرحلة الشاقة، وهو نصّ تاريخي هام يعتبره الإيسلانديون نصا مؤسسا لأدبهم بعد الإصلاح الديني في أوروبا. وقد دوّنت هذه الرحلة بلغة إيسلاندية قديمة وغامضة، ومن هنا صعوبة ترجمتها. كما تمّ استنساخها على مدى مئات السنين، واختفت فترة طويلة، ثم عادت للظهور في القرن الثامن عشر، وهو ما يطرح احتمال تعرّضها إلى التحريف والتصحيف بالزيادة أو النقصان، بدليل سقوط الفصلين الأول والثاني من طبعتها الحالية. وقد ارتأى المترجمان، حتى يكتمل الكتاب، أن يضيفا إليه رسائل رهائن آخرين وجّهوها إلى أهلهم من الجزائر. يقدم وصف الرحلة والرسائل التي ذيّلت بها، صورة مثيرة للاهتمام عن الحضارتين الإسلامية والأوروبية في القرن السابع عشر بعيون رجل دين رزئ في أهله. وتتخلّل الرحلة، أيضا، تفاصيل هامة عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية ومشاهد عن الحياة اليومية في الجزائر العاصمة آنذاك. والكتاب غنيّ بدقة الملاحظة، والتقاط الملامح المعبّرة، والإثارة في الوصف الطريف للواقع، والسرد القويّ للمغامرة الإنسانية. يقول المترجمان: ''إنه عمل جذّاب من عدّة نواح. هو قصة حيّة على المستوى الإنساني، ونحن شهود عن إنسان متديّن يروي مأساته الشخصية المريرة، يكافح، مثله مثل آخرين من قبله ومن بعده، بطريقته الخاصة من أجل التوفيق بين هول هذه الفاجعة التي ألّمت به وفهمه الخاص للحقيقة الإلهية''. كان أولافور رجل دين على مذهب لوثر، عميق الإيمان بالقضاء والقدر. وكان ينهي كل فصل من فصول الرحلة بالاستشهاد بمقاطع من الكتاب المقدّس. وكان يعتقد أن العناية الإلهية، وحدها، ستخلّصه، هو وأسرته، من ورطته. لكن لم يكتب لأولافور أن يلتقي أبناءه مرة أخرى بعد عودته إلى إيسلاندا. وبعد عشر سنوات تمّ افتداء 35 إيسلانديا، عاد منهم إلى إيسلاندا 27، من بينهم زوجته التي عاش معها، بعد الفراق، سنتين، قبل أن يرحل عن هذه الدنيا كئيبا، يائسا، قانطا من كلّ شيء إلامن رحمة ربّه. إن كتاب ''رحلات الأب أولافور إغيلسن'' هو، حقّا، من أوجع الصفحات التي خلّفها لنا التاريخ. [email protected]