كيف كان سيكون حال الجزائر والجزائريين، لو لم تكن لديهم صحافة مستقلة أو خاصة؟ طرح مثل هذا السؤال لا نريد من ورائه ضرب ''خط الرمل'' كما يقال في المثل الشعبي، أو قراءة ما في الفنجان، بقدر ما أملت طرحه عدة أشياء.. تعد'' الخبر''، وهي تشعل شمعتها ال20 جزء مما كان سيقال. لو سألنا السلطة ماذا لو لم تكن هناك صحافة مستقلة أو خاصة في البلاد واقتصر الأمر على وجود صحف وتلفزيون الدولة فقط. الأكيد أن الإجابة لديها لا تخرج عن نطاق الحنين إلى عهد الرأي الواحد والفكر الواحد لسبب بسيط أن السلطة تكره مقولة الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون ''لو خيرت بين أن تكون لنا حكومة بلا صحافة، أو صحافة بلا حكومة، لاخترت دون تردد الثانية''. السلطة عندنا بطبيعتها الفطرية لا تحب من يكشف عيوب تسييرها للشأن العام أو ينشر غسيل فسادها وفضائحها، فلذلك لا تنظر بعين الرضا والقبول لكل ما تنشره وتكتبه الصحافة، وعلاقتها بها دوما ظلت متوترة لأنها تريد من هذه الأخيرة أن تكون ''بوقا'' للحاكم ليس إلا. لكن مع ذلك هل كان بوسع الجزائر التي هزتها انتفاضة أكتوبر 88 وكادت أن تعصف بركائز الدولة برمتها، أن لا تعرف هزات أخرى أكثر شدة وحدة، لو لم تكن هناك صحافة خاصة أو مستقلة استطاعت، شئنا أم أبينا، أن تشكل متنفسا، وتعرف كيف تخرج غليان ''الكوكوت مينوت'' الذي كان يعيشه الشعب الجزائري وتمنعه من أن يتحول إلى غاز اجتماعي متفجر، وبذلك كانت ''البارومتر'' الذي استعانت به السلطة مكرهة للتحكم في مجريات الأمور واستشراف ما يدور في ذهن ملايين الجزائريين المتلهفين لحرية التعبير والتظاهر والإضراب والتجمع. إن الجزائريين الذين ينهضون كل صباح ويتوجهون باتجاه أقرب كشك لشراء جريدة ليست من جرائد الدولة كما ظل يتردد عند بداية التعددية الإعلامية، لم يكن فقط من أجل معرفة ما يجري حولهم من أخبار وأحداث، ولا من أجل قراءة الصحف وملء الكلمات المتقاطعة كوسيلة محببة لقتل الوقت، وإنما أيضا مثلما يقول الكثير منهم للتنفيس عن ''الخنقة'' ونزع ''الدمار''. لقد تحولت الصحافة الخاصة على مدار العشرين سنة الماضية من عمر التعددية الإعلامية التي دخلت فيها البلاد في التسعينيات من القرن الماضي، إلى مسكن لأوجاع الشعب جراء المعاناة وانسداد قنوات الحوار بينه وبين المسؤولين في مختلف المستويات. لقد تحولت ''الخبر'' بجدارة لدى القراء إلى ما يشبه ''الإدمان'' الذي يستعصي على صاحبه التفريط فيه، لأنهم رأوا فيها، ولو أنه إحساس داخلي، بأنه يمكنها القصاص لهم من ''المتجبرين''، من خلال كشفها لتجاوزات المسؤولين وفضحها لعيوب المسيرين وإيصالها لمطالب ''المحفورين''. لقد غرست الصحافة الخاصة على حداثة تجربتها الفتية، كيف ينتزع الجزائريون حقوقهم والطريقة التي يفندون بها مزاعم من يغشونهم ويضحكون عليهم بالوعود الكاذبة، ومن ثم تحولت منبرا لهم لنشر شكاويهم وطرح تظلماتهم ومشاكلهم، بعدما ظلت في مرحلة التعددية ترمى في سلة المهملات في بوابة الوزارات والإدارات ولا تصل إلى أيدي المسؤولين بسبب تواطؤ المرؤوسين خوفا على مقاعدهم ومناصبهم. لم تعد ''الكتابات الحائطية'' التي غزت شوارع المدن الجزائرية في بداية التسعينيات، بفعل حالة الغلق في البلاد، الملجأ الذي يتنفس منه المواطنون للكشف عن رفضهم للحفرة والمحسوبية و''بن عميس'' وكذا للتنديد بالفساد والمرتشين من أميار وولاة وغيرهم، بعدما مكن ظهور الصحف المستقلة من احتواء ذلك الغضب الشعبي بفعل تبني انشغالاتهم من خلال فتح صفحات الجرائد لاستقبال شكاوي المواطنين ومطالبهم الاجتماعية والاقتصادية. ولا أحد يشك في أن ميلاد الصحف الخاصة أو المستقلة ساهم بشكل كبير في طي صفحة الكتابات على الجدران بالطلاء التي سادت لسنوات في عهد الأحادية بالنظر لانعدام وسائل التعبير الحر آنذاك، وهو ما يعني أن الجزائريين وجدوا ضالتهم في التعددية الإعلامية بعد سنوات من الكبت والرقابة الممارسة على الأفواه والأقلام. كانت الصحافة المستقلة في سنوات الدم والدمار، السفير الذي استطاع أن يوصل الصورة والصوت عن نضالات الجزائريين نحو الخارج، وهو ما لم يكن بمقدور مؤسسات الدولة من وزارات وسفارات وقنصليات فعله، لأنها كانت هشة وضعيفة وتفتقد للشرعية وينظر إليها بنصف ''العين'' خصوصا من طرف منظمات حقوق الإنسان والجمعيات غير الحكومية. لقد نجحت الصحافة الخاصة في إقناع الخارج بأن ما جرى خلال عشرية الإرهاب ليس حربا أهلية، مثلما كانت تروج له أكثر من جهة، وبأن الجزائريين ليسوا متطرفين ولا متعصبين كما حاولت وسائل الإعلام الأجنبية إلصاق تلك التهمة بهم من وراء مقولة ''من يقتل من؟''، وهو مجهود عجزت عنه سفارات وقنصليات ونجحت في إيصاله الصحافة المستقلة بوسائل كانت في معظمها بسيطة جدا وبإمكانيات أكثر من محدودة. ولعل الحملة المصرية ضد الجزائريين شعبا ودولة، بعد مباراة أم درمان، تغني عن أي دليل على أن الشعب الجزائري كاد أن يموت ''قنطة'' لو لم يجد متنفسا له في الصحافة المكتوبة لإشفاء غيضه وغليله مما نفثته الفضائيات المصرية من حقد وغل ضد الجزائريين. لن نكون من قراء الفنجان، لو قلنا إنه لولا الصحافة الخاصة، لبقى النقاش داخل أجهزة الحكم، حول الكثير من قضايا الأمة، حبيس الأدراج مثل العفريت داخل قنديل الأحادية، ولبقي الجزائريون يشاهدون نفس الوجوه التي تمر في ''اليتيمة'' دون أن يتسنى لهم معرفة أن الجزائر تزخر بأسماء سياسية وحزبية ونقابية لها من المستوى والرأي السديد ما يمكنها من تحقيق التداول السلمي على السلطة. لقد أتاحت الصحافة المستقلة المجال لظهور وجوه أخرى في عالم الثقافة والفن والرياضة وحتى السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، كان النظام يحجر عليها الظهور في وسائل إعلام الدولة ومؤسساتها. ولولا هذه الصحافة لبقي مسؤولو البلاد وحكامها مثل سابق العهد، صم بكم عمي، لا مراقب ولا محاسب لأعمالهم ولا منتقد لخطاياهم وفضائحهم، وبالتالي استمرار سياسة احتقار الشعب وفرض منطق ''لا أريكم إلا ما أرى''. كان سيكون من الصعب الحديث عن ديمقراطية في الجزائر دون وجود صحافة حرة مستقلة. فبربكم كم كان سيكون تصنيف الجزائر في مجال حرية الصحافة والتعبير من دون الصحف الخاصة؟ الأكيد أن منظمة صحفيون بلا حدود أو هيومن رايت ووتش وغيرها من المنظمات المهتمة بمجال حقوق الإنسان ستجعلنا ضمن زمرة دول مغضوب عليها مثل بورما، كوريا الشمالية، كولومبيا التي توصف بأنها دول من أشد أعداء الصحافة في العالم ومن الدول التي يستشري بها الفقر جراء تشديد المؤسسات المالية الدولية شروط منحها القروض وعزوف الاستثمارات الأجنبية عنها لانعدام الحرية والشفافية بها. كان يمكن أن تكون إنجازات الصحافة المستقلة كبيرة جدا لولا أن الصحافيين ظلوا لسنوات يجرجرون كل يوم ثلاثاء إلى محكمة سيدي محمد في الجزائر العاصمة التي تصدر في حقهم أحكاما بالحبس والغرامات المالية، وهو ما جعل المجال الإعلامي المستقل يشهد مزيدا من التضييق، خصوصا منذ إقرار قانون العقوبات الجديد في .2001 صحيح أن هناك من يريد في دوائر السلطة أن يجعل الصحافة الخاصة الجزائرية تقارن نفسها دائما وفقط بالدول العربية التي ليس فيها حريات كطريقة منهم لإرضاء النفس! لكن لماذا لا نقارن أنفسنا بدول أخرى التي تطلق الحريات للصحافة وتفتح المجال لها وتجعل من حرية نقل المعلومات حق يعاقب من يحجبها. إن ''الخبر'' التي أشعلت شمعتها الأولى في التسعينيات ولعنت ظلام الأحادية، هي اليوم تشعل شمعتها ال20، وهو ما يجعل نور تلك الشموع مجتمعة بمثابة ''بروجكتور'' بإمكانه أن ينير طريق الاحترافية أكثر فأكثر. إن النجاح المحقق ونسبة المقروئية القياسية وعدد النسخ المسحوبة يوميا تعد أكثر من دليل على أن الصحفيين هم أهل للحرية، ومن يريد أو يعمل عكس ذلك، فهو جيل ''فات وقته'' وعليه أن لا يطمع في وقت الآخرين.