تقدمت حركة النهضة في تونس إلى وزارة الداخلية بطلب الاعتماد. هذا يعني أن الإسلام السياسي سيخضع مرة أخرى إلى امتحان آخر في تونس، بعد التجارب الفاشلة التي عرفها في معظم الأقطار العربية. انتهى البعض منها إلى حركات ظلامية، والبعض الآخر فضل اقتسام الريع مع أنظمة فاسدة ومستبدة. بينما استطاع أن يعيد صياغة نفسه خارج العالم العربي، وفق منظور عصري. لقد أيقظ نجاح هذه التجارب خارج العالم العربي، وإخفاقها عربيا، وعيا جديدا، كشف للكثير من الحركات الإسلامية أن مرجعياتها وآلياتها ومفرداتها وممارساتها وأساليب عملها لم تعد قادرة على تقديم حلول ملموسة، أو اقتراحات نظرية، فانتهت إلى مأزق تاريخي، أدى إلى ما اصطلح على تسميته في أدبيات الحركات الإسلامية ''المراجعات الفقهية''. وهو اعتراف صريح، ليس بفشل التجربة فحسب، بل يتعدى ذلك إلى بنية الفكر الديني الذي لم يعد، في جانب كبير منه، قادرا على الاستجابة لمهام الحاضر، ما تطلب إعادة النظر في الكثير من مكوناته. يعد أستاذ الفلسفة راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة ومنظّرها، العائد إلى تونس من منفاه، من الوجوه التجديدية، تفصح عنها إسهاماته الفكرية المتنوعة حول علاقتنا بماضينا وبحاضرنا وبالآخر، مكنته من إيجاد صيغة بين ماضي الإسلام وقيم العصر مثل المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان والعلاقة مع الغرب المتقدم الذي يراه حقيقة تاريخية كبرى وليس دار حرب. هذه التوليفة الفكرية المستنيرة مصدرها خصوصية تاريخية محلية منحتها أبعادها النظرية تكوينه الفكري المتنوع وتجاربه السياسية المختلفة، فهو من جهة وارث تقاليد الإسلام المتمدن، إسلام الحواضر الذي يجد تعبيره في إسلام الزيتونة المعتدل مكنه من التعامل مع نصوص الإسلام برحابة واسعة معتمدا على آلية عقلانية، وهي مقاصد الشريعة التي يتكئ عليها وعلى رموز إسلام الزيتونة في تأصيله الفكري، ما جعله يبتعد عن إسلام الإخوان المسلمين. هذه النظرة المتقدمة أسهمت في تعميقها الشهادة العلمية من قسم الفلسفة بجامعة دمشق، فقد مدته بأدوات نظرية ومنهجية مكنته من الإطلالة على العصر بأدوات جعلته يطلع على التيارات الفكرية العصرية. حيث عرف عنه في بداية حياته الفكرية تأثره بالفكر القومي ونظريته في الأمة وبناء الدولة العصرية. ولقد عايش هذه المؤسسات العصرية عن كثب وتمتع بمزاياها أثناء منفاه في الغرب. فكانت تجربة إضافية عمقت خلفيته الفكرية وطورت رؤيته السياسية، تجلت بشكل واضح في كتبه المختلفة وممارساته السياسية. ويعد حاليا من الفاعلين في الحوار القومي الإسلامي. ذلك كله جعل منه رمزا دينيا وقائدا سياسيا، جلبت له أنصارا ومردين، كما مكنته لاحقا أثناء قيادته لحركة النهضة من الانفتاح على كل القوى الوطنية، ليبرالية ويسارية، بلغت حد التحالف في مرات كثيرة ضمن برنامج وطني. لكن هذه الاجتهادات الفقهية والصياغات النظرية، على أهميتها، لا نعلم إلى أي مدى تصمد أمام القطيعة التي أحدثتها الثورة مع الكثير من المرجعيات، وجعلت تونسالجديدة تجابه أسئلة جديدة ورهانات جدية بعد إسقاط النظام الذي لقي إجماعا وطنيا. لكن إعادة بناء المجتمع لن يترك بين يدي هذا السياسي أو ذاك الواعظ، لأن الثورة أسقطت الواحد الأحد وتدخلت الجماهير في صنع مصيرها وتاريخها. كما أنه وفي المدى القريب جدا ستتصدر الأحداث المسألة الاجتماعية ومطالب الناس الملحة التي لا تقبل التأجيل ولا تنتظر حلولها في حياة ما بعد القبر. عندها تتبدد الكثير من الأوهام عن المجتمع الفاضل والمفهوم الغامض للأخوة الإسلامية. ذلك يجعل حركة النهضة أمام رهانات فكرية جديدة يتعذر أن تستل أجوبتها من ماض غابر ولا من أدبياتها السابقة، ما يتطلب إعادة القراءة من مستوى ينطلق من التاريخ الجديد الذي صنعته الثورة، خاصة أن المجتمع التونسي يمتلك وعيا سياسيا متقدما ويتوفر على طبقة وسطى واسعة ومتعلمة ستبتسم سخرية من الشعارات القادمة من حطام التاريخ. إذا تمكنت حركة النهضة من الانخراط في هذه المهام، وتتفاعل مع القوى الحية داخل المجتمع وتتخلى عن الأوهام التاريخية وتجعل مثلها الأعلى قيم العصر، عندها تكتمل ثورة تونس، وعندها يحق لهذه الثورة أن تفخر أن تونس البلد العربي الصغير قدم للعرب نظرية كبيرة.