لي عادات كباقي الناس في شهر رمضان المعظم، أحب التجوال في الأحياء العاصمية العتيقة، وزيارة بعض الأماكن المجاورة لها. ولعل أعز مكان على قلبي هو حي باب الواد، الذي توجد في صفحات ذكرياتي معه ألف حكاية وحكاية. كلما نزلت حي باب الواد، وبمجرد أن أخطو خطوتي الأولى فيه، أتذكر الراحل شريف قرطبي الذي جمعنا مع بعض سقف الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، الكائن ببولوغين، حيث كان رئيس قسم لجنة المصنفات الموسيقية، وكنت أحد أعضائها الخمسة. وبعد انتهاء ساعات الدوام، كنا نتجه مباشرة صوب حي باب الواد، حيث كنا نتجول بين الباعة في الأسواق، ونستمتع باشتمام رائحة التوابل، فكان الناس يتسابقون لإلقاء التحية على عمي شريف، وهو الذي لطالما تمتع بحسن وطيب الأخلاق، وسلاسة الجمل ونقاوة الكلمة، وكلما التقاه أحد، إلا وتذكر رائعته ''من أجلك عشنا يا وطني''. وكما هو معروف عن أحياء العاصمة العتيقة، تطول طوابير الانتظار في الساعات الأخيرة من صيام يوم كامل أمام محلات بيع ''قلب اللوز'' و''الشاربات''، ما يشكل صعوبة كبيرة للزبائن في اقتناء حاجاتهم. وفي إحدى المرات، قلت لعمي شريف مازحا ''أؤكد لك بأنني سأدخل في عراك مع الزبائن، ولن أقف في الطابور، لكن لديّ اقتراح.. إذا كنت لا تريدني أن أخلق فوضى عارمة، ما عليك إلا أن تتدخل أنت كونك كبيرا في السن، والكل يحترم ذلك، ويحسب لك ألف حساب''. وهو الأمر الذي كان يضحكه كثيرا، وكان الزبائن المنتظرون يتجاوبون مع مزحنا، ويشاركوننا تلك اللحظات، وأذكر تعليق أحدهم ذات مرة عندما قال ''إذا مر واحد منكم، فالثاني لابد له أن يتعارك معنا''، في إشارة إلى عمي شريف. تلك اللحظات التي مازالت راسخة في مخيلتي ولم تبرح مكانها قط، كانت تشكّل بنّة رمضان بالنسبة لعمي شريف رحمه الله. ففي غضون شهر رمضان الأخير، نزلت حي باب الواد لرؤية الأصدقاء، وتجوّلت بين أزقته، ودخلت سوقه، ووجدت نفس ذلك الطابور، ونفس ''قلب اللوز''، ونفس البائع، كأن الزمن لم يمض قط، ولكني لم أجد عمي شريف الذي فارقنا وترك وراءه فراغا كبيرا، وهو الذي كان مرشدي، وكنت عصاه التي يرتكز عليها، كما كان يقول في العديد من المرات. فمن الصعب نسيان السنين العشر التي قضيتها مع عمي شريف في مكتب بولوغين.. ياحسراه.. الله يرحمك يا شريف قرطبي.