تعتبر الانتخابات في تونس امتحانا حقيقيا، ليس لأن تونس كانت أول شرارة انطلاق ما اصطلح عليه بالربيع العربي أو الثورات العربية، ولكن هو امتحان لقدرة المواطن العربي على التغيير الإيجابي والخروج من بوتقة حكم الأقلية وحروب الزمر والمصالح والتوريث، أو حكم الشرعيات المحسوبة على فئة ومجموعة أو طائفة أو حزب، وعسكرة المجتمعات وطغيان مفهوم الرجل الواحد، والشيء الواحد، بتعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي. ولكن بالمقابل، يمكن أن تصبح ساحة لحرب الشرعيات ما بعد ثورة الشارع، وتكريسا لمنطق الغوغاء والفوضى التي لا يمكن أن تكون خلاقة وفقا لما أريد لها أن تكون من قبل المحافظين الجدد ومجموعة بيلدربرغ التي صاحبت موجة التغيير في الوطن العربي ابتداء من تونس. وعليه، فإن التجربة أو النموذج التونسي يوجد من خلال أول انتخابات على المحك،فالشارع الذي استطاع أن يدفع نظاما سياسيا مهيكلا ومنظما ومحاطا بأجهزة الأمن والقمع إلى التفكك والانهيار، عليه أن يقدم البديل الأمثل الذي يكون بعيدا عن منطق الفراغ الذي أدى إلى بروز مظاهر الفوضى والنهب والسرقة وتحطيم الممتلكات، مباشرة بعد زوال نظام الرئيس زين العابدين بن علي، فالفراغ الناتج عن مركزية السلطة في أيدي أقلية، نتج عنه أيضا ظهور أكثر من 50 حزبا وتشكيلة سياسية في تونس من أقصى اليسار إلى اليمين. فالتيارات الإسلامية، وهذه النخبة السياسية مطالبة اليوم بإعطاء بديل فعلي، بعيدا عن الوصاية والإقصاء وبعيدا عن تلاعبات القوى الإقليمية والدولية التي ترى في القوى السياسية في تونس فرصة لإعادة هندسة وتركيب الخريطة السياسية بما يناسب مصالحها، وبالتالي يمكن أن تكون التجربة الوليدة أقرب إلى الإجهاض من أن تتحول إلى قوة دفع للتغيير الفعلي، ليظل منطق صراع الأضداد قائما، أو كما صوّرها يوما الشاعر الجاهلي الأفوه الأودي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جُهالهم سادوا تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت فإن توالت فبالأشرار تنقاد فالتغيير الفعلي يكمن في ضمان تجاوز اجترار أخطاء الماضي والعودة إلى منطق الإقصاء من خلال إبراز فئة جديدة ''قامت بالثورة وغيّرت النظام'' لها الأحقية في الحكم والسلطة، والانتقال من شرعية ثورة إلى شرعية ثورة جديدة جاءت على أنقاض الأولى، ليعاد تكميم الأفواه لمن يعارض، وكما قال ملكوم إكس لا يمكنك فصل السلام عن الحرية، لأنه لا يمكن لأحد أن يكون مسالما ما لم يكن حراً. فالخط بين العدل والحرية والعبودية والاستبداد صغير، وعلى حد قول اللورد أكتون كل سلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، سواء كان الحكم فرديا أو بيد أقلية، فإن الأمر سيان، فالثورة في تونس إما أن تصبح نموذجا فعليا لحراك سياسي وثقافي واجتماعي، وإما أن تتحوّل إلى نسخة مشوهة من ثورات العرب التي لم يبق منها سوى شعاراتها الجوفاء التي لا تطعم من جوع ولا تؤمّن من خوف.