قام رسول الله بدعوة النّبوة بعد سنّ الأربعين، وأيَّد دعواه بالقرآن الكريم الّذي اشتمل على أخبار الغيب الماضية والمستقبلة، واشتمل أيضاً على العقائد الإلهية المؤيّدة بالبراهين العقلية والعلمية وأصحّ قوانين الأخلاق والفضائل النّفسية، والعبادات الجامعة بين المنافع الروحية والجسدية، وأعدل الشّرائع السياسية للبشرية قاطبة. وقد تمّ على يد سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم حوادث ضخمة لا يعقل أن تتم إلاّ في خلال آماد طويلة، وعقب تطورات متتالية، منها: توحيد الأمّة العربية بعد أن كانت قبائل متفرّقة. قضاؤه على وثنية متوارثة منذ آماد طويلة، وإحلاله محلّها ديناً سماوياً يرفع الإنسان إلى أعلى مراتب السّمُو. إحداثه إصلاحاً اجتماعياً جذرياً قلَّب أخلاق العرب من جاهلية متخلّفة وما تشمل عليه من ضياع حقوق المستضعفين والانغماس في الشّهوات الجسدية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية غير مفرقة بين الضعفاء والأقوياء، وعمل من هذه الأعمال كفيل بأن يرفع مقيم صرحها إلى درجة ممتازة قَلّ أن يبلغها غيره، وتجعل له اسماً خالداً بين عظماء التاريخ، فما ظنُّك وقد تمَّت كلّها على يد رجل واحد أفضل خلق الله هو سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وهذه الحوادث الاجتماعية كلّها تحتاج إلى تحليل مقبول تطمئن إليه النّفس وليس أمامنا إلاّ أحد فرضين: إمّا التّسليم بأنّ سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم هو رسول الله كما صرَّح بذلك القرآن الكريم وكما أيَّده العقل المجرد عن الهوى، وإمّا فرض أنّه ليس برسول وأنّه وصل إلى ما وصل إليه بالتّدبير وحُسن السياسة. إن مال مائل إلى فرض الثاني ناقشناه المسألة وقلنا: ينبغي على فرضك جملة أمور: أنّه اقتبس دينه من أحد الرُّهبان أو الأحبار وأنّه كان يُجيد القراءة والكتابة وأنّه اقتبس دينَه من الشّرائع السّابقة وأنّه مُدّعٍ للنّبوة كذباً وأنّه كان يتظاهر بما كان متّصِفاً به من الأخلاق والعبادة رياء وأنّه استطاع أن يثبت على هذا الرِّيَاء طول حياته، واستطاع أن يخفي هذا الكذب والرّياء على كلّ فرد حتّى على أخصّ أصحابه وأخصّ نسائه وأنّ الله سبحانه أيَّده ونصَرهُ مع اتّصافه بهذه الصّفات وأنّه مُدّع للرِّسالة وأنّه أتَى بأكثر ممّا جاء به المرسلون من الكمالات.