حين وصلت مطار القاهرة، كان الخبير الدولي في التحكيم السوري العميد فاروق بوظو يرتشف الشاي في كافيتريا المطار الجديد برفقة رئيس تحرير الأهرام العربي، أشرف محمود، منتظرين وصول الإيطالي ميرلو رئيس الاتحاد الدولي للصحافة الرياضية القادم من ميلانو. قال لي بوظو ''كيف حال الجزائر؟'' فابتسمت، ففهم الأمر وقال لي ''سوريا ليست كما تسمع أو ترى.. هناك توترات بعيدة عن دمشق''.. ولم يلبث أن عرّج بي من السياسة العربية نحو الرياضة العربية، قبل أن يسأله أشرف ''حضرة العميد لماذا يكره حُكّام الكرة العرب بعضهم البعض..'' فأجاب ''تلك حقيقة لا تفسير لها..''، قلت لهما ''حكّام تنقصهم الحكمة..''. وحين وصلنا فندق البارون، كان شيوخ وشباب الإعلام الرياضي محلّقين حول طاولة في البهو، أيمن أبو عايد، مصطفى الآغا، صلاح جابر، حسن شرارة، آسيا عبد الله، يوسف برجاوي، لطفي الزعبي، رائد عابد، محمد بوعبيد، رهيف علامة.. وغيرهم. وامتدت الجلسات إلى ساعة متأخرة، ليلتقي الجميع مع بقية الضيوف في قاعة نجيب محفوظ بالأهرام.. كان بعض الصحفيين يقترب مني في استحياء، بعضهم يسألني عن الجزائر أو منتخب الجزائر أو روراوة أو يحاول النبش في أم درمان.. ويبدي بعضهم كثيرا من الأسف لما حدث، فيقول ''منهم لله..'' ولأنني لا أقول شيئا، يضيف ''ما لهم ومال شهداء الجزائر.. ده ماتش كرة''، فلا أعلّق.. ولكنه يقول لي بثقة عالية ''تأكّد يا أستاذ بأنهم لن يأتوا اليوم.. كلّ الذين يحضرون حفل الجائزة مواقفهم شريفة''. ويبدأ الحفل، فيجلس بجانبي مدرّب حرّاس مرمى منتخب مصر زكي عبد الفتّاح، ومدرب الفراعنة الأمريكي بوب برادلي.. ويشرع في تكريم الشخصيات الإعلامية والرياضية التي تمّ اختيارها في استفتاء العام، الفلسطيني جبريل الرجوب، والسوري فاروق بوزو، والإيطالي جياني ميرلو، والجزائري عزالدين ميهوبي، والمصري عصام عبد المنعم، واللبناني رهيف علامة، والتونسي نبيل المعلول والمغربي محمد بوعبيد.. ويكتفي كلّ مكرم بكلمة، يعبّر فيها عن مشاعره.. وأذكر أنني تحدثت عن الحساسيات بين الشعوب العربية ودور الإعلام في تأجيج النزاعات الرياضية، وقلت بأنّ الشارع العربي قد يسقط أنظمة وحكّاما لكنّه لن يتخلّص من الشوفينيّة المتأصّلة فيه ما لم يتخلّص من عقدة التفوق ورفض الخسارة (..)، واقترحت أن تكرّم فلسطين في ذكرى النكبة بتشكيل منتخب من نجوم العرب ليواجهوا منتخب فلسطين في الأراضي المحتلة، وهو ما رحّب به جبريل الرجوب، وأثنى عليه الحضور.. ليعلن أشرف محمود في ختام الحفل عن فكرة ''القدس لنا'' احتفاء بفلسطين، واقتراح تشكيل منتخب من نجوم الكرة العربية.. حين تحدّث جبريل الرجوب عن واقع الحركة الرياضية في فلسطين، تخلّى عن لغة الخشب، وأفرغ ما في جعبته من مرارة. قال إنّنا ننتظر من الرياضيين العرب لفتة جريئة لاستفزاز العدوّ الاسرائيلي. وذكر أنّ جوزيف بلاتير حين زار أراضي السلطة، وعبّر عن تضامنه مع الفلسطينيين، أبقاه الإسرائيليون 45 دقيقة عند خط الحدود، وهي رسالة واضحة، تعني أنّ ما يقوم به، يضرّ بمصلحة إسرائيل، وكذا بمصداقية الفيفا.. وبلغة تحمل كثيرا من التحدّي قال الرجوب ''صحيح لسنا بلدا نفطيا، لكننا جاهزون لاستقبال عشرات الضيوف في الدورة الدولية التي نتهيأ لها.. ومستعدّون لإرسال تذاكر السفر، والإقامة في فندق من خمس نجوم، دون المرور على الشرطة الإسرائيلية.. إنني أتحدّاكم جميعا لتثبتوا أنّكم مع فلسطين''. وفي جلسة جانبية، قلت له ''هل تعلم حضرة اللواء، أنّ فلسطين من حقها أن تفتخر بأحد أبنائها الذين درّبوا عديد الأندية الجزائرية الكبيرة، وله معها ألقاب..''، فاستغرب الأمر، فقلت ''إنّه المدرب منصور الحاج سعيد، حائز على دكتوراه في كرة القدم من جامعة لايبزيغ الألمانية''. وأضفت ''لماذا لا تستفيدون من تجربته؟'' فقال لي ''بلّغه تحياتي وأخبره أن يتصل بي على بريدي الإلكتروني..''. وقد أخبرت منصور بذلك، وقد أبدى سعادته ليتواصل مع أبناء شعبه.. ومن يدري فربّما صنع لنفسه تاريخا آخر مع منتخب الجبّارين.. منصور الحاج سعيد اشتهر لدى الجمهور بالحاج منصور، في حين أن اسمه الكامل هو منصور الحاج سعيد، التقيته أوّل مرّة في العام 1993، عندما قدم من ألمانيا ليخوض تجربة التدريب في الجزائر، فكانت محطّته الأولى مدينة سطيف وفريقها الوفاق، واكتشف الناس معه أسلوبا آخر في التدريب، وطريقة لم يألفوها كتلك التي اعتادوا عليها مع عريبي وكرمالي وشنيتي وخالفة.. عندما أجريت معه أول لقاء ل''صدى الملاعب''، اكتشفت أنّ الرجل مبدع، وأنّه قارئ ممتاز للفلسفة والشعر، ويؤمن بضرورة أن يكون لذلك مكان في لغة التدريب، لأنّ الكرة إبداع ولا يمكن أن تخلو من لغة الشعر.. لهذا فإن الدكتور منصور يحفظ كثيرا من روائع الشعر، ولمّا يقابلني، يجد ضالّته في إسماعي كثيرا مما يحفظ، وكلّه من جميل القول، وقد أرسل لي منذ حوالي شهرين ''مجموعة شعرية'' تعكس حالة الفلسطيني الراحل في المنافي، وهي قيد الإعداد لطبعها.. انتقل منصور كثيرا بين ملاعب الجزائر، كما كانت له تجربة في فريق الجيش السوري، لم تدم طويلا، وكلّما كانت عينه تكبر مع الكرة، كان قلبه يزداد خفقانا مع ذكره ابنته حنان من زوجته الألمانية. قال لي في آخر لقاء، لقد كبرت حنان، وأنا أفكّر فيها كثيرا. وزادت رغبتي في أن يكون لي نصيب من تدريب منتخب فلسطين.. إنها بلدي. ثم أسمعني مقطعين من قصيدة، ولم يتأخر في أن يسمع الحاج روراوة أيضا بعض الشعر.. بعيدا عن الكرة. وقبل العودة، ذهبت مع نبيل المعلول إلى إدارة نادي الأهلي، وقدّمنا واجب العزاء بعد مجزرة بور سعيد التي راح ضحيتها أكثر من سبعين شخصا.. فيتوقف الدوري، ويتجه نقاش الكرة إلى من يكون رئيس مصر المقبل؟..