توفي، منذ أسبوعين، أحد أكبر كتاب أوروبا. أقصد الروائي أنطونيو تابوكي الذي ارتبط اسمه باسم شاعر البرتغال الأعظم فيرناندو بيسوا. اكتشفه بمحطة قطار ''ليون'' بباريس، وهو عائد إلى إيطاليا. فخرج تحت وقع تأثير بيسوا واللغة البرتغالية بمجرد أن وطأت قدماه إيطاليا. الكتاب الذي يتحدث عنه تابوكي هو الترجمة الفرنسية لقصيدة بيسوا ''دكان التبغ''، وهي قصيدة وقّعها الشاعر البرتغالي باسم أحد ''بدلائه'' ''ألفارو دو كامبوش''. كان ذلك بمثابة اكتشاف مذهل بالنسبة لتابوكي، فاعتبره بمثابة قوة خارقة، لدرجة أنه قرر تعلّم اللغة البرتغالية سريعاً، وقال في قرارة نفسه: ''إن كان هناك شاعر كتب قصيدة ساحرة إلى هذه الدرجة، فعليّ إذاً تعلم لغته''. وبالفعل بقي تابوكي مهوسا ببيسوا، إلى حد أن شبحه بقي يزوره في أغلب أعماله الروائية. يحيل مسار بيسوا وتابوكي، إلى انخراطهما في ثقافات أخرى غير الثقافة المحلية. عاش بيسوا لفترة طويلة في جنوب إفريقيا، بحكم أن والده كان دبلوماسيا. لكنه عاد إلى البرتغال في مرحلة الشباب، وأبدى تمسكه باللغة البرتغالية، بينما فضل باقي أفراد عائلته الاستقرار في إنجلترا. يتحول الأدب عند تابوكي إلى لحظة لاكتشاف بلد، والغوص في ثقافة تختلف عن الثقافة الإيطالية. وأريد أن أنبه هنا إلى ولع تابوكي بالطهي البرتغالي، إلى درجة التقائه مع الروائي الألماني غونتر غراس. خصص غراس روايته الضخمة ''سمك الشبوط'' للحديث عن تاريخ الطهي. وقد شكلت قراءتها بالنسبة إلي في مطلع التسعينيات لحظة مرحة لن أنساها أبدا. والطهي بالنسبة لتابوكي وغونتر غراس يمكن وضعه في عمق الفعل الثقافي، وأذكر أن غراس يرفض الفصل بين الطهي والأدب، فكلاهما يلتقيان عند اللمسة الإبداعية التي تترك بعد التذوق ما يسميه الفرنسيون ''النشوة الجنسية''. ويسأل المرء اليوم ضمن أي مواطنة يضع تابوكي، لكن بالنسبة للنقاد فهو روائي أوروبي بامتياز. عاش بين توسكانيا (إيطاليا) وليشبونة (البرتغال)، ووجه جهده نحو شرح عالم بيسوا الأدبي، أو تلك ''الحقيبة السرية'' كما يسميها. كتب أعماله بالبرتغالية أولا، ثم قام بترجمتها بنفسه إلى الإيطالية. وأصدر ''الأيام الثلاثة الأخيرة من حياة فرناندو بيسوا''، وهي رواية عن البدلاء الذين استعملهم بيسوا. يزورونه وهو يحتضر في المستشفى لتصفية حساباتهم معه. يعرف عن تابوكي انتقاله بين اللغات والثقافات الأوروبية، فإلى جانب الثقافتين الإيطالية والبرتغالية، نجده ملما بتفاصيل كثيرة ودقيقة عن الثقافة الفرنسية. فهو مولع بديدرو وفلوبير (من يا ترى يستطيع تجنب تأثير هذا الروائي العظيم، أقصد فلوبير، فالأدباء الكبار يتحدثون عنه كأحد معالم الرواية. وماريو فارغاس يوسا يعتبره معلمه). ويظهر تأثر تابوكي بالأدب الفرنسي في روايته الشهيرة والمعقدة والمثيرة ''بيريرا يدعي'' التي تدور أحداثها في مدينة ليشبونة وهي تتلألأ، بطلها بيريرا الصحفي العجوز والغامض الذي يروي تفاصيل من حياته خلال ذلك العام الصعب 1938 الذي عرف صعود الديكتاتوريات الأوروبية في البرتغال وإسبانيا وألمانيا طبعا. الرواية عبارة عن سرد لقصة واقعية، مثلما يروي تابوكي نفسه في المقدمة. يقول إن بيريرا زاره سنة 1992، ولم يكن يدعى في ذلك الوقت بيريرا، لكنه كان غامضا، وبه رغبة في أن يصبح بطل كتاب. تتحرك الرواية على وقع فكرة فلسفية يطرحها الأدب في حالات انتشار الحكم المطلق، وهي ما مدى مسؤولية المثقف تجاه التاريخ؟ حيث يكتشف بيريرا مقته الشديد للديكتاتور سالازار، وتشبثه بالروح الديمقراطية التي يجعله الدفاع عنها يلقي بنفسه في غمرة مقاومة خفية. وليست هذه المقاومة سياسية ولا معلنة، بل هي مقاومة أدبية حملته إلى بلزاك وغيره من الروائيين الفرنسيين الذين أمدّوه بقيم مرجعية حول ميل الإنسان نحو الحرية. والحقيقة أن تابوكي الذي نشر روايته سنة 1994، أراد ضرب الديكتاتوريات الأوروبية التي برزت مع مطلع القرن العشرين، لكنه أراد كذلك أن يلفت الانتباه إلى انحرافات رئيس الوزراء الإيطالي حينها سيلفيو بيرليسكوني، الذي بدأ يتربع على إمبراطورية إعلامية مخيفة ويتجه بإيطاليا نحو فكر فاشي آخر. إنها رواية عن مقاومة ثقافية تتغلغل ببطء، وتترك أثرها إلى الأبد. [email protected]