؟ ماذا لو عاش الجاحظ في زمننا هذا، زمن شبكة تويتير، فكم سيكون عدد متابعيه؟ ربما لن يكون له في هذه الشبكة نصيب. وسيعجز، رغم فصاحة لسانه وبيان قلمه، عن لفت الأنظار لحسابه، لأنه اشتهر بأسلوبه الاستطرادي في الكتابة الذي يفيض عن التغريدة في هذه الشبكة التي لا يزيد عدد كلماتها عن 140 كلمة. ربما سيعزف عن الاشتراك في هذه الشبكة أصلا، مردّدا ما قاله الصحافي الفرنسي ''كزافي دو لا بورت'': إن التغريدة في شبكة تويتير قصيرة، ما يتطلب منك التوجه رأسا نحو الهدف. لكن شدة قصرها تجعلنا نتساءل: هل تتضمن هدفا أصلا؟ ربما سيكون حظ أبو الطيب المتنبي في الشبكة المذكورة أوفر من حظ الجاحظ. كيف لا وموقع تويتير يؤسس لمملكة النرجسية، كأي موقع اجتماعي في شبكة الأنترنت. وكل مشترك فيه يشعر أنه شخصية مهمة، ومحور العالم، والكائنات البشرية تدور حوله وتتابع خطواته. وأبو الطيب المتنبي، كما يعرف المهتمون، علامة بارزة في النرجسية. أليس هو القائل: أنا الذي نظَرَ الأعمى إلى أدبي وأسْمَعَتْ كلماتي مَنْ به صَمَمُ؟ لكن، ماذا جنى أبو الطيب المتنبي من نرجسيته المفرطة، سوى العداوة والتشرد والموت؟ لقد كانت نرجسيته مجانية، بالنظر لما يجني بعض نجوم الفن والطرب والمودة من مال وشهرة، من رعايتهم لنرجسيتهم في مواقع الشبكات الاجتماعية، وتويتير بالذات. نشرت الكثير من الصحف الجادة بعض التقارير التي تؤكد أن هؤلاء النجوم يتقاضون مبلغا يتراوح ما بين 2500 و8000 دولار أمريكي عن كل تغريدة في شبكة تويتير، تدفعها لهم شركات الإشهار. بل هناك من يحصل على أكثر من هذا المبلغ، لأن سعر كل تغريدة يرسلها أي نجم مشهور يحدّد بعدد متابعيه: فلمغني الراب الأمريكي الشهير، سنوب دوغ، على سبيل المثال، 4,6 مليون متابع، ولمصمّمة الرقص وكاتبة الأغنيات الشهيرة، بولا عبدول، 2,2 مليون متابع! قد لا يصدق بعضكم هذا المبلغ المالي لأنه يعني، ببساطة، أن هذا النجم يبيع الكلمة الواحدة بأكثر من 57 دولارا! بالطبع، إن النجم لا يكتب. فهناك من يكتب تغريداته نيابة عنه. وتتولى العديد من شركات الإعلان تسويق تغريدته لدى شركات السيارات والمطاعم والفنادق، ونوادي التدريب الرياضي ومراكز التسوق. فيكفي أن يُكتب له في حسابه في موقع تويتير أنه يتسوّق في المكان الفلاني، أو أنه يتغدى في المطعم الفلاني، أو ينوي شراء سيارة كذا... ويعتقد المعلنون أن الكثير من الأشخاص يقلدون ما يقوم به نجمهم المفضل، لأنهم يحبونه ويعتبرونه قدوتهم في الحياة. وقد رسخت مجموعة من المؤسسات المختصة في قياس تأثير الأشخاص في الحياة العامة هذا الاعتقاد، مثل مؤسسة كلوت، وبيرأندكس، وتويتير غريدر، وغيرها. إن سعي مشاهير الفن والطرب والتمثيل والموضة والطبخ والزينة في العالم إلى رفع عدد متابعيهم في شبكة تويتير معروف ومفهوم، إلى حدّ ما، لأنه يروم ''بيع'' المتابعين والمعجبين لشركات الإعلان. لكن، ما هي غايات بعض الصحافيين والكتاب والفنانين والدعاة العرب من رفع عدد متابعيهم؟ لقد اندهش أحد المغردين السعوديين من احتفال أحد الدعاة ببلوغ عدد متابعيه في موقع تويتير مليوني متابع! وأغرته المناسبة، فانصرف إلى رفع عدد متابعيه، بل قام بشرائهم، حسب بعض الصحف، فقفز حسابه في بضعة أيام من 600 إلى أكثر من 166 ألف متابع! وقد شجعته هذه التجربة على التحرّي حول عدد متابعي حسابات بعض الكتاب والصحافيين والأدباء والشعراء والدعاة العرب عبر شبكة تويتير، فأصيب بالصدمة. لقد اكتشف أن الكثير منهم اشترى آلاف المتابعين، بدليل أن عدد متابعي بعض الدعاة في شبكة تويتير فاق عدد المشتركين فيها في المنطقة العربية! ربما نرجسية أبو الطيب المتنبي هي التي حرّكت رغبة هؤلاء لشراء المتابعين. لكن صيت أي مشترك في شبكة الأنترنت عبارة عن فقاعة فقط، بدليل أن بعض الأشخاص رأى عدد متابعيهم يتراجع بسرعة فائقة خلال عطلتهم السنوية. والمتابعون ''الكومبارس'' لا ينعشون النرجسية، بل يعذبونها، لأن عددهم يتناقص أو يتزايد حسب المقدرة على دفع المقابل المالي. إن لنرجسية المتنبي رواسب في حياتنا، أما نرجسية شراء المتابعين، فهي مجرد سراب.