صديقي لحبيب السايح، فتحت نقاشا مهما حول لغة الرواية، وها أنا ذا أعمق النقاش، بعد أن استحسنت مبادرة زميلنا الكاتب سعيد بوطاجين، ودعوته لنقاش أكاديمي أوسع، لكن متى التفت هؤلاء الأكاديميون والمهتمون بالأدب لما نكتبه، وأستثني هنا الأستاذ لحبيب مونسي، الذي كتب بدوره مقالا حول الرواية، ونشره على جداره على الفايس بوك، داعيا إلى ضرورة اهتمام الروائي بالعمق الفلسفي والاجتماعي والنفسي والتاريخي، وكلها نواقص تعاني منها الرواية الجزائرية الجديدة. وأعتبر دعوة الأستاذ مونسي مهمة، وفي غاية الأهمية، لأنها تسير في اتجاه الرغبة في تخليص الرواية الجديدة من ضحالتها، ومن ظاهرة النشر السريع التي انتشرت خلال السنوات الخمس الأخيرة. وقد عبرت عن مثل هذه الأفكار منذ التسعينيات، وتنبأت بأن الرواية التي يكتبها الجيل الجديد سوف تبقى حبيسة أسلوب الاعتراف والتأوهات. وأنا متأكد صديقي لحبيب أنك توافقني الرأي، أن رواية الاعترافات هي أسهل طرق الكتابة الروائية، لأنها لا تُلزم الكاتب بالاهتمام بالمعادل الموضوعي، ولا بنقل العالم الخارجي، ولا بالوصف، وغيرها من المبادئ الإبداعية التي ارتكزت عليها الرواية الكلاسيكية ابنة القرن التاسع عشر، والتي تبقى بالنسبة إلي أهم المرجعيات الروائية. فالرواية لم تعد فن التفاصيل الدقيقة للأسف، بل أصبحت مجرد اعترافات متتالية، وقصص قصيرة تتراص بعضها لبعض. أعود إلى موضوع لغة الرواية، صديقي لحبيب، فهو بيت القصيد، وأخبرك بأنني لو تمكنت من النزول باللغة الروائية إلى مستوى الصعلكة لفعلت، وإن وجدت ما هو أكثر انحدارا من الصعلكة لفعلت كذلك، حتى أكسر هذه النمطية التاريخية التي جعلت من العرب كائنات لغوية حبيسة النص المقدس. الرواية يا لحبيب تعبر عما هو مدنس، وإن قالت ذلك فهي تبحث عن التحرر من المقدس، فكيف تسقط في مقدس اللغة، أو ما تسميه أنت لغة اللغة، والاقتراب من الشعري. لماذا تريد جر الرواية إلى الشعر؟ الرواية تهتم بالمساحات الشاسعة، والفضاء المنفتح، فاتركها بعيدة عنه. الشعر موجود في الشارع، في نبضه، في عفويته، وليس في مختبرات الكتاب. كان نور الدين جباب قد شاطرك الرأي خلال النقاش، وأقول له إن لغة الشعب هي الأهم، وما قاله يعبر عن احتقار للفئات الشعبية وللغتها. اسمح لي يا لحبيب، لكنك ذكرتني بمطربي الشعبي، تجدهم يتغنون بالحياة والكؤوس السبعة والنساء الفاتنات وهم شباب، لكن بمجرد أن يكبروا يذهبون إلى مكة لغسل عظامهم، ينتقلون إلى المدائح الدينية، فيتحول الفن بالنسبة إليهم مسألة مرتبطة بالمقدس. هل تريد أن تفعل مثلهم؟ أنت من بدأ كاتبا واقعيا، متوغلا في الواقعية برواية ''زمن النمرود''، وانتهيت متصوفا في ''تلك المحبة''، رغم أنك عدت إلى ما يشبه الواقعية منذ رواية ''مذنبون''. الرواية فن، والفن هو ذلك الفعل الذي يخبرنا بأن الحياة ليست بخير حتى نتذكر بأنه يوجد شيء اسمه المقدس. الرواية انحراف جهة الظلمات، والمتاهات، بلغة منحرفة، حتى تتذكر الإنسانية كم هي بعيدة عن الجنة والفردوس، واللغة الوحيدة التي بإمكانها أن تترجم مثل هذه الانحرافات هي لغة الحياة التي ليست هي لغة الشعر. لغة الرواية لغة عقلانية تروم البناء الهندسي. صحيح أنها تستنجد بالشطحات الشعرية، والاستعارة، لكن في بعض الأحيان فقط. أما الشعر، مملكة العرب الأولى، وتاجهم الضائع، والمفضل على مر القرون، فلغته غير عقلانية البتة، فهي لغة مختلفة تعتمد على العواطف والأحاسيس. لما أقرأ رواية أمريكية، أو تشيلية، أو فرنسية، وحتى الرواية المصرية، أجد أن لغة الرواية سهلة قريبة من الحياة، تستند إلى الواقع، وتروي ما يقظ مضجع الإنسان بأسلوب لا تكلف فيه.