ربيقة يقف على الإستعدادات الأخيرة للملحمة الفنية التاريخية "روح الجزائر"    مراد يستقبل سفير ايطاليا بالجزائر    مشروع السكة الحديدية بشار-تندوف-غارا جبيلات: رخروخ يعرب عن " ارتياحه" لتقدم الأشغال    محافظة الطاقات المتجددة والفعالية الطاقوية تنظم يوم الخميس ورشة حول إزالة الكربون في القطاع الصناعي    تيغرسي: مشروع قانون المالية 2025 يتضمن مقاربة إجتماعية بأهداف اقتصادية    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 42 ألفا و792 شهيدا    بونجار: برنامج عمل اللجنة الوطنية للوقاية من مرض السرطان ومكافحته يرمي إلى تقليص عدد الإصابات والوفيات    البويرة.. وفاة شخص وإصابة آخر في حادث مرور بالطريق السيار شرق-غرب في بلدية بودربالة    بلمهدي يؤكد على أهمية الحفاظ على المخطوطات القديمة وتثمينها    الاحتلال الصهيوني يواصل جرائم الإبادة في شمال قطاع غزة لليوم ال19 على التوالي    الميزانية المقترحة تضمن مواصلة جهود تجسيد الالتزامات    باسكوا: الجزائر قوة إقليمية    تبّون مدعو لزيارة سلوفينيا    يحيى السنوار من ثائر إلى أسطورة    وقفة بدار الصحافة في العاصمة    السنوار رفض عرضاً لمغادرة غزّة    هؤلاء أبرز 20 لاعبا انخفضت قيمتهم السوقية    انتقادات لاذعة لمحرز    بورحيل يشارك في ورشة عمل حول حماية البيانات    زيتوني يزور هيئة المناطق الحرة القطرية    منظّمات وجمعيات ترافع لتسقيف الأسعار    دراسة مشروع قانون حماية ذوي الاحتياجات الخاصة    إنتاج 492 ألف قنطار من البطاطا الموسمية    كلمات جزائرية تغزو إنجلترا!    الصحافة الجزائرية تحتفل بيومها الوطني    وزارة الإنتاج الصيدلاني تُحذّر..    برنامج عمل اللجنة الوطنية للوقاية من مرض السرطان ومكافحته يرمي إلى تقليص عدد الإصابات والوفيات    وزارة الصناعة تتخذ عديد إجراءات    تذكروا "بيغاسوس".. الجوسسة باستعمال التكنولوجيا أمر واقع    قرار اللجنة الرابعة الأممية انتصار تاريخي آخر للقضية الصحراوية    بلعابد يشارك في اجتماع إدارة مركز اليونيسكو للتميز في التعليم    بحث فرص ترقية التعاون الصناعي بين الجزائر والهند    وديتان للمنتخب الوطني للسيدات بنيجيريا    لجنة الانضباط تعاقب 3 أندية وتوقف الحارس ليتيم    قرارات هامة لصالح طلبة علوم الطب    صادي يجري محادثات مع شخصيات بأديس أبابا..قرارات هامة في الجمعية العمومية للكاف    آدم وناس مطلوب في أودينيزي وسمبدوريا الإيطاليين    9 محتالين يجمعون تبرعات باسم مرضى السرطان    القبض على محترفي سرقة الهواتف    260 إصابة بالكيس المائي    التحكيم في قفص الاتهام، احتجاجات بالجملة و"الفار" خارج التغطية    مجلس الجامعة العربية يدين تقويض عمل المنظمات الإنسانية في غزة    أنابيب نقل الغاز الجزائرية ضمان لأمن الطاقة الأوروبي    "المساء" ترصد ما خققه الثقافة والفنون في 4 سنوات    الطبعة 18 من 26 إلى 30 أكتوبر    الأمم المتحدة تحذّر من تدهور الأوضاع في فلسطين    مسؤول في هيرتا برلين يصف مازة ب"جوهرة" النادي    توسيع طاقة تخزين الأدوية في 3 ولايات    سطيف.. استفادة أزيد من 60 ألف طالب جامعي من التأمين الاجتماعي    أيام حول الانتساب للضمان الاجتماعي في الجامعة    "نوبل" تنتصر لتاء التأنيث    الرئيس يأمر بإنجاز فيلم الأمير    التميّز والجمال عنوان "شظايا من الضفتين"    مختصون: هكذا نجعل للدراسة قيمة في حياة أبنائنا    الابتلاء من الله تعالى    نعمة الأمن لا تتحقق إلا بوجود 4 مقومات    هكذا نزلت المعوذتان على النبي الكريم    عقوبة انتشار المعاصي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجزائر في قلب معركة الرأي العام في باماكو
''الخبر'' في العاصمة المالية تجس نبض السياسيين حول خيارات الحلّ في الشمال
نشر في الخبر يوم 23 - 12 - 2012

لا يبدو أن الرأي العام في باماكو منشغل بما يجري في شمال البلد، بقدر ما تنشغل به المجموعة الدولية. والحال ليس على اختلاف كبير داخل دواليب السلطة المنقسمة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء وبين الفاعل الرئيسي، المؤسسة العسكرية. لكن حالة ''التيهان'' في الأوساط السياسية لا تعكس واقع معركة الرأي العام التي تأخذ، تدريجيا، مناحي الاستقطاب، بين داعمين لحل عسكري إفريقي وآخر توافقي بين الشمال والجنوب. وبين شقي الرحى يتجادل الرأي العام المالي الدور الجزائري، بفعل انتقادات غير مسبوقة في الصحافة لمواقف الجار الشمالي.
من شوارع باماكو فقط يمكن إصدار أحكام بأن البلد يعيش حالة ''التيه'' السياسي، وتشرد الرأي العام أمام ما يحدث في شمال البلاد. ثلثا الأراضي المالية في الشمال بين أيدي مجموعات مسلحة، وانقسام فاضح في المواقف الرسمية بسبب تفرق ''دم الصلاحيات'' على ثلاث مؤسسات، وهي الرئاسة والحكومة والجيش، هذا الأخير الذي بات اللاعب الأول والأهم في المعادلة المالية، ولأن موازين الأمور انقلبت، عموما، في البلاد، فكذلك حال المؤسسة العسكرية التي بات يقودها ضابط برتبة نقيب (الكابتن) أمادو هايا سانوغو، في وجود عشرات الجنرالات ومئات العقداء.
الشخصية الغامضة للنقيب سانوغو
يحتمي الكابتن أمادو سانوغو بين كتيبة من الضباط الأوفياء، في حي ''كاتي'' في ضواحي العاصمة باماكو، وهو عسكري حاد الطباع ذو مواقف متصلبة كثير التشكيك، على الأقل هكذا بدا ل''الخبر''، خلال زيارة قادتها إلى قلب الحامية العسكرية في ذلك الحي البعيد بنحو 30 كلم عن وسط العاصمة، عبر طريق عامرة بالتجار في ترحالهم إلى الحدود السنغالية. يحاول العسكر المحيط بسانوغو إعطاء انطباع للداخل، كما الخارج، أن دور الجيش لا يتعدى ''مرافقة الانتقال الديمقراطي'' في البلاد، ويدّعون أن قلب الطاولة على آخر رئيس للوزراء، شيخ موديبا ديارا، كان ''لتصحيح الوضع''، بسبب ''محاولة من نصبناه لصناعة إجماع داخلي التفرد بالقرار السياسي''. في النهاية وجد النقيب سانوغو نفسه في موضع المسير الأول للبلاد قبل رئيس الجمهورية، وبات رصيده الشعبي هو الأهم بين باقي الشخصيات المدنية والعسكرية الأخرى.
الساسة في مالي لا يرون حليفا أحسن من الجزائر، لكن موقفها يطرح تساؤلات.. هي لا تريد تدخلا دوليا، وهي نفسها ترفض أن تتدخل عسكريا، مع أني أتمنى أن يمارس الجيش الجزائري هذه المهمة، دون الحاجة لأي جهة أخرى
لم يكن على متن رحلة الخطوط الجزائرية المتوجهة إلى باماكو، من دون الرعايا الماليين، غيري وسيدة جزائرية رفقة ابنتها. جلّ الماليين الذين ركبوا الطائرة قدموا من دبي، فالشركة الجزائرية تحاول منافسة شركات إفريقية في ضمان خط دبي- باماكو. تعرّض كثير من المسافرين الماليين إلى تفتيش دقيق من قبل مصالح أمن المطار، بدعوى محاربة شبكات التهريب الإفريقية، ما خلق جوا من الغضب بينهم وملاسنات حادة دفعت أحد الركاب لإطلاق عبارة ''بلد الإرهاب''، وهو يهم بولوج مقصورة الطائرة. لم تكن العبارة تلقائية ولا عفوية، وإنما نتاج تصور شبه عام بين الماليين إزاء دور الجزائر في الفترة الحالية في أزمة الشمال، حيث تساق اتهامات مبرمجة ومتواصلة، في بعض الصحف والقنوات، بأنها ''الدولة الوحيدة التي ترفض محاربة الإرهاب في شمال البلاد''.
جلس إلى جانبي، خلال الرحلة، رعية مالي، في ال26 من العمر، يدعى دجانكو توري، كان قضى بضع ساعات في فندق متعاقد مع الجوية الجزائرية في عين البنيان في العاصمة بعد قدومه من دبي، شاب ميسور الحال يملك محلا فاخرا لبيع الهواتف النقالة والتجهيزات الإلكترونية في حي ''أسي ''2000 في باماكو، ويضطر، في كل مرة، للتنقل إلى دبي، حيث يعقد الصفقات ويعود. فهم دجانكو توري طبيعة المهمة التي أتنقّل ضمنها إلى باماكو، فقام بإظهار شريط فيديو على شاشة هاتفه ''سامسونغ غالاكسي''، أنجزته القناة الفرنسية الثانية، يصوّر ممارسات ''الشرطة الإسلامية'' التي تتبع حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا في مدينة غاو، وكذا خطبا لقيادات في حركة ''أنصار الدين'' في بعض مدن الشمال، تشدد على ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية.
لا يستطيع هذا الشاب المالي تصور فكرة حوار مع تلك المجموعات، تارفية كانت أم غيرها. ليس وحده في مالي من بات يؤمن بأن منطق الحرب في الشمال هو الكفيل الوحيد بإنهاء حالة تمرد استغرقت خمسين عاما، تمثل عدد سنين استقلال الدولة المالية عن فرنسا. حدثني توري عن إسلام الماليين ب''الفطرة''، ما يعني عدم الحاجة لمن يفرض عليهم تطبيق الشريعة، كلمني، أيضا، عن عدم تفهم الماليين للموقف الجزائري المتحفظ، حسبه، على تحرير الشمال. كان يطرح أفكاره ويستدل، في كل مرة، بمقولة ''لقد قالوا ذلك في الصحف والحصص التلفزيونية''.
الحكومة ستكون منشغلة بأمرين.. تحضير الانتخابات قبل ربيع العام المقبل واستعادة الأجزاء الشمالية للبلاد، نعول على الجزائر في مرافقة الماليين في المرحلة الانتقالية
والحقيقة أن بعض الصحف المالية والقنوات التلفزيونية لا تنفك، في الأيام الأخيرة، عن التعرض للموقف الجزائري، من باب أنه ''المشكلة كلها''، في معركة ليس خافيا في باماكو أنها تدار من طرف قوى إقليمية، لكسب تأييد الرأي العام، ومنح الجزائر ''عدوا جديدا'' يضاف للجبهات المتفجرة على الحدود. ويبدو أن مرافقي، دجانكو توري، أحد عناصر هذا الرأي العام التي باتت تؤمن، فعلا، بأن مشكلة الشمال ''صناعة جزائرية خالصة''.
يعكس مطار باماكو طبيعة الجبهات الثلاث التي تتخاصم الرأي العام في مالي، الجزائر وفرنسا والمغرب، فطائرات الخطوط الجوية الثلاثة كثيرا ما تتقابل على نفس أرضية المطار، في سباق تجاري خلفياته سياسية. فالشركات الثلاثة هي الأكثر حضورا في مجال النقل الجوي بهذا البلد الإفريقي، وأحيانا يعكس حضورها، أو تقطع رحلات إحداها، حقيقة المواقف السياسية وعلاقتها بما يجري من تطورات سياسية وأمنية، فالخطوط الفرنسية والخطوط الملكية المغربية قاطعتا الوجهة المالية ليلة سقوط رئيس الوزراء، شيخ موديبو ديارا، قبل أيام. كانت تلك رسالة للمؤسسة العسكرية، تقول بعدم رضا باريس والرباط عن خطوة الجيش بإقالة هذا المسؤول، الذي لم يكن الماليون يدركون عنه أكثر رغبة في إزالة الجزائر من كل الحسابات الدولية التي تتدارس أزمة بلاده.
يعج بهو مطار العاصمة باماكو بالقادمين من باريس، يحملون أمتعة كثيرة، تمثل جزءا كبيرا من التجارة التي تمارس على نطاق واسع في بلد يعيش على المساعدات الدولية. لقد خلّفت فترة حكم الرئيس المخلوع، أمادو توماني توري، في مارس الماضي، عاهات اقتصادية واجتماعية في هذا البلد الإفريقي الغني بموارده الطبيعية والفلاحية، جعلته رهينة مساعدات الاتحاد الأوروبي ودول الجوار، كالجزائر وليبيا في عهد معمر القذافي، ما خلق حالة انهيار شاملة في البلاد وتفشي مظاهر الفساد والرشوة، التي تحولت إلى المعامل الأول في كثير من الإدارات.
غياب المظاهر العسكرية
يدفع الفقر والحاجة المئات من الشباب الماليين للمرابطة عند مخرج مطار باماكو عند منتصف الليل، حيث موعد وصول كثير من الرحلات، يتصيدون الزوار الأجانب ويلحّون عليهم في شراء معروضاتهم، شرائح هاتفية وبطاقات تعبئة للمتعامل الفرنسي ''أورانج'' أو ''مالي تال''، وأحيانا صناعات تقليدية. لا توحي حركية المطار بأن البلاد تعيش أزمة دستورية، على إثر انقلابين عسكريين قادهما العسكري الشهير سانوغو، أولهما أطاح بالرئيس والثاني برئيس الوزراء، فالسلطات الأمنية في باماكو تكتفي ببضعة عسكريين يحرسون بوابات المطار، ويراقبون، في نفس الوقت، وثائق المسافرين.
غياب المظاهر العسكرية في باماكو ليس حكرا على المطار، في بلد يصور على أنه يعيش تحت قبضة الجيش، ومخاوف من هجمات ''الإسلاميين'' المسيطرين على ثلثي أراضيه في الشمال. عاصمة صاخبة بالحركة على مشارف ساعات الفجر، في غياب شبه تام للحواجز الأمنية، فصوت الرصاص لم يسمع في باماكو إلا في الساعات التي أعقبت الإطاحة بأمادو توماني توري. شدني الانتباه إلى حاجز أمني، هو الوحيد في المدينة، ضم بضعة عسكريين وقد أوقفوا راكبي دراجات نارية، بينما كان أحد الجنود يرقص على قارعة الطريق، وقد لعبت الخمر برأسه.
الصحف المالية والقنوات التلفزيونية لا تنفك، في الأيام الأخيرة، عن التعرض للموقف الجزائري، من باب أنه ''المشكلة كلها''، في معركة ليس خافيا في باماكو أنها تدار من طرف قوى إقليمية، لكسب تأييد الرأي العام، ومنح الجزائر ''عدوا جديدا'' يضاف للجبهات المتفجرة على الحدود
في طريق المطار إلى غاية ''شارع النهر'' المحاذي لنهر النيجر، تصطف العشرات من الشاحنات الحاملة للوقود استعدادا لشد الرحال نحو كوت ديفوار، فالبلد يغذي حاجياته النفطية من الجوار جنوبا، فيما تتكفل شركات فرنسية بعمليات التوزيع عبر محطات بنزين تسيرها شركة ''توتال'' الفرنسية، لكن النفط المستورد لم يعد شريانا اقتصاديا للدولة فحسب، وإنما لآلاف الشباب على قارعة الطرقات والشوارع والأزقة وسط المدينة، فالبنزين يباع في قارورات صغيرة لأصحاب الدراجات النارية، التي تعتبر وسيلة النقل الأكثر استعمالا في المدن المالية.
الانقلاب العسكري أنتج أزمة سياحة
نشأت باماكو على الضفة الشمالية لنهر النيجر، حيث تقع حاليا السفارة الجزائرية، لكن نمو المدينة السريع دفع بظهور جزئها الثاني في الضفة الجنوبية، حيث يوجد حي ''دجيكوروني'' الراقي، الذي يضم المدينة الإدارية التي تجتمع داخلها كل الوزارات، وحتى مكتب الوزير الأول، وفي محيطها كثير من الشركات التجارية والسكنات الحديثة التي يغلب عليها الطابع الأوروبي، وتم ربط أوصال المدينة بثلاثة جسور عملاقة، أحدها يحمل تسمية ''جسر الملك فهد بن عبد العزيز''.
لكن باماكو في زمن الانقلاب واحتلال الشمال ليست كسابق عهدها مع السياحة، فقد أقفلت كثير من الفنادق أبوابها، في غضون الأشهر الثمانية منذ الانقلاب العسكري على الرئيس، ما دفع بالآلاف من الشباب إلى البطالة، وأعلنت شركات سياحية إفلاسها، وتبع ذلك إغلاق العشرات من مكاتب صرف العملات التي كانت تتعامل مع آلاف السياح. فندق ''ميرابو'' في ''شارع النهر'' شاهد على فظاعة المشهد السياحي في باماكو، رغم أنه لم يقفل أبوابه، الفندق كان يأوي بضعة فرنسيين لا غير، وباقي الغرف خاوية من النزلاء. يشتكي ابراهيما محمودو، أحد القائمين على الفندق من هذا الوضع قائلا: ''لقد تغير الحال، ونحن نصارع من أجل البقاء''، فقد طرد كثير من الخدم وخفضت الأجور.
لكن نزلاء الفندق من الأجانب لم يكونوا الوحيدين فيه. أحد الطوابق خصص لأفراد من الجيش المالي، يتناولون فطور الصباح ببزاتهم العسكرية إلى جوار النزلاء وأحيانا على طاولة واحدة، بل وكانت بعض العلب الخشبية التي تحمل شحنات سلاح تصعد الطابق الثاني أمام أعين الجميع. علمت، خلال تواجدي في باماكو، أن الجيش المالي يعاني أزمة تسليح خانقة، إثر تضييق دولي على ورادات السلاح لهذا البلد، وقد تم الإفراج لصالحه عن شحنة وحيدة قدمت من كوناكري في غينيا، قبل أيام قليلة فقط.
لقد بات المجتمع الدولي يخشى سطوة العسكريين، منذ الانقلاب على الرئيس ثم الوزير الأول، لذلك يفرض قيودا كبيرة على حصول الجيش على موارد سلاح، ما زاد من إحباط المؤسسة وأفرادها. ولعل حقيقة تجهيز الجيش المالي تدعو إلى كثير من ''السخرية'' من الدعوات التي قد تراهن عليه في استرجاع الشمال، أمام تعداد وعتاد وقوة الجماعات الإرهابية المسيطرة على الشمال.
وإن يكن القادة العسكريون ملتزمين الصمت إزاء نواياهم من الشمال، فإن الخطاب السياسي في باماكو منقسم على نقيضين: أول يبدو أكثر قوة يطالب، بشدة، بنشر قوات إفريقية في شمال البلاد والتخلص سريعا من الجماعات الإرهابية، وثان بدأ يجد لنفسه مكانة داخل الرأي العام، ويفضل إجراء حوار سياسي مع الجماعات التارفية، ثم دفع المؤسسة العسكرية المالية لتنفيذ المهمة بالشراكة مع قوى الشمال، والتعويل هنا على حركة ''أنصار الدين''، بحكم أن ''حركة تحرير أزواد'' فقدت الكثير من رصيدها وضعفت قوتها، فيما غادر أغلب قادتها إلى بوركينافاسو.
يدفع الفقر والحاجة المئات من الشباب الماليين للمرابطة عند مخرج مطار باماكو عند منتصف الليل، حيث موعد وصول كثير من الرحلات، يتصيدون الزوار الأجانب ويلحّون عليهم في شراء معروضاتهم، شرائح هاتفية وبطاقات تعبئة للمتعامل الفرنسي ''أورانج'' أو ''مالي تال''، وأحيانا صناعات تقليدية.
بين نقيضي الموقفين في الصحافة والإعلام، يتعاطى بعض المحسوبين على ''النخبة'' في مالي الدور الجزائري. كثيرة هي الصحف المالية التي تتعاطى سلبا مع دعوات الجزائر للحوار. تكتب صحيفة ''لوب'' المالية مقالات يومية ضد الموقف الجزائري، بسبب أو من دونه، لكن خلاصات تلك المقالات غالبا ما تكون كالآتي: ''الإرهاب ليس في شمال مالي، كما تدّعي الجزائر، بل في الصحراء الغربية''، أو ''السلطات المالية مطالبة بتغيير موقفها من الصحراء الغربية''. وتذهب صحيفة ''لوماليان'' أبعد من ذلك في مقالات تتحدث غالبا عن ''دور الجنرالات الجزائريين في إشعال منطقة الشمال''، وحتى نقاشات في أستوديوهات تلفزيونية مالية تطرح ما تسميه ''العرقلة الجزائرية''، وأن ''الجزائر جزء من المشكلة، وليست جزءا من الحل''.
يقول عيسى طوغو، نائب برلماني سابق ومدير ديوان رئيس البرلمان حاليا، في دردشة مع ''الخبر'' بمكتبه بباماكو، عن هذه الاتهامات: ''الأمر ليس كما يصوره الإعلام.. حاليا من يدفع المال أكثر هو صاحب الكلمة عند الرأي العام''. لكن عيسى طوغو، الذي درس في جامعة ورفلة قبل سنوات، يضيف: ''الساسة في مالي لا يرون حليفا أحسن من الجزائر، لكن موقفها يطرح تساؤلات.. هي لا تريد تدخلا دوليا، وهي نفسها ترفض أن تتدخل عسكريا، مع أني أتمنى أن يمارس الجيش الجزائري هذه المهمة، دون الحاجة لأي جهة أخرى''.
بيد أن تحليل مسؤولين جزائريين يختلف مع قراءات تعتقد بأن الرأي العام في باماكو يدعم نشر قوات إفريقية، يقول أحد الرسميين الجزائريين في العاصمة المالية، في تصريح ل''الخبر''، في هذا الشأن: ''الرأي العام حاليا بدأ يدرك أن الأمور بوجود قوات دولية ليس بالأمر السهل''، ويضيف ''الماليون يكتشفون فوائد الحل السياسي تدريجيا، وهذا الحل يكسب مناصرين بشكل يومي في المشهد السياسي''، لكن لماذا؟ يقول هذا المسؤول الجزائري: ''لأنه لا أحد يمكن له توقع متى تنتهي الحرب في الشمال إذا تدخلت قوة دولية، في حين قد يسهل الأمر إذا تعاون الجيش المالي، بعد تجهيزه جيدا، مع حركة مثل أنصار الدين في مطاردة الجماعات الإرهابية في غاو وغيرها''.
ربما يعتمد التحليل الجزائري، في كسب الحل السياسي لنقاط إضافية على حساب الحل العسكري، على ما يؤشر عليه الانقلاب الأخير الذي أطاح بالوزير الأول، شيخ موديبو ديارا، فالبلاد سارت لثمانية شهور على قاعدة ثلاث سلطات، إحداها بقيادة الوزير الأول، الذي لم يؤمن بتاتا بفكرة الحوار مع الجماعات المسلحة في الشمال. موديبو ديارا فاجأ الرأي العام المالي بأن تبرأ من جولة المفاوضات، التي حضرها وزيره للخارجية في بوركينافاسو قبل أيام وجمعته بممثلين عن ''أنصار الدين'' و''حركة تحرير أزواد''، وقال جملته الشهيرة ''لست أنا من أرسل وزير الخارجية''، وكان قصده أن الرئيس المالي المؤقت هو صاحب الفكرة.
لكن ما هي مهمة الوزير الأول الجديد، دجانكو سيسوكو؟ لقد تزامن تواجد ''الخبر'' بالعاصمة المالية مع إعلان ديوانه عن تشكيلة الحكومة الجديدة، التي بدا أنها موسعة لتشمل بعض الشخصيات المحسوبة على قبائل الشمال، إذ إن المناطق الثلاث، التي يتألف منها شمال البلاد، مثلت في الحكومة بثلاث حقائب إضافية، كما تضم التشكيلة الجديدة ممثلين عن أبرز الأحزاب السياسية في البلاد. برغم احتفاظ الجيش بثلاث حقائب وزارية أخرى، إحداها وزارة الأمن الداخلي.
يشغل وزراء الحكومة المالية مناصبهم في وزارات تتجاور مبانيها، داخل حي إداري كبير محاط بأسوار عالية وحراسة أمنية مشددة، إلا أن تلك المدينة التي تسمى ''الحي الإداري'' تؤشر، هي نفسها، عن حالة ''تيه سياسي'' خانق. لما دخلت ''الخبر'' بوابة الحي كانت الوزارات في حالة تأهب قصوى لاستقبال الوزراء الجدد، في وقت كان الوزير الأول، دجاكو سيسوكو، في جلسات استماع فردية إليهم، طلبنا لقاء الوزير الأول الجديد، عدة مرات، في زيارات متتالية للحي الإداري، وفي كل مرة كانت الإجابة أن دجاكو سيسوكو منشغل بالاستماع للوزراء الجدد وتحضير أول مجلس وزراء معهم.
مالي بين أولوية الانتخابات وتحرير الشمال
في نهاية المطاف، حصلت ''الخبر'' على تصريح سياسي تم عبر الهاتف مع وزير الاتصال، الناطق الرسمي باسم الحكومة الجديدة، مانغا دامبيلي، الذي كان آخر الوزراء الذين لحقوا بمكاتبهم عائدا من باريس، حيث كان يشغل منصب متحدث إعلامي باسم سفارة بلده، قال فيه إن ''الحكومة ستكون منشغلة بأمرين.. تحضير الانتخابات قبل ربيع العام المقبل واستعادة الأجزاء الشمالية للبلاد''، وأضاف ''نعول على الجزائر في مرافقة الماليين في المرحلة الانتقالية''.
لكن هل من السهل على الحكومة الجديدة تنظيم انتخابات قبل ماي القادم، الإشكالية الأكبر تكمن في أن الانتخابات إذا تمت فإنها لن تشمل ثلثي أراضي البلاد، ومعنى ذلك سياسيا، هو اعتراف مسبق باستقلال الشمال، كما إن إمكانية نشر قوات دولية تحت مظلة أممية غير وارد، على الأقل إلى غاية خريف العام المقبل، فما العمل؟
لقد قاد هذا السؤال ''الخبر'' إلى البحث عن رأي مؤسسة الجيش، قررنا التنقل إلى المقر العام للمؤسسة، في حي ''كاتي'' الشهير على بعد 30 كلم من وسط العاصمة، يخترق الطريق، باتجاه قيادة الجيش، عدة أحياء في الضواحي مرورا بحي ''سامي'' الذي يضم قيادة الشرطة ثم حي ''سيراكورو'' وصولا إلى ''كاتي''، تتحرك عبر الطريق الكثير من العربات في طريقها إلى الحدود السنغالية. حواف المسلك تشير إلى بعض الحقيقة عن واقع الجيش المالي، حيث يظهر جنود في محيط ''كاتي''، بعضهم مستلق إلى ظل جدران بيوت مدنية وبعضهم يحلق شعر رؤوسهم.
أصيب سائق سيارة الطاكسي، الذي كان ينقلني إلى ''كاتي''، بكثير من الذعر وهو يقترب من المقر العام للنقيب سانوغو، خاطبني قائلا: ''سأنزلك في مكان بعيد، لأني أخشى التوقيف في حال دخول المحمية''، لكن خشية هذا السائق لم تكن في محلها، لقد سمح له الجنود بمرافقتي إلى داخل الحامية، وطلبوا منه الانتظار إلى غاية عودتي.
قيادة الجيش العام في ''كاتي'' مجرد إدارات مترامية دون بوابات حراسة. تمشيت عدة أمتار داخلها أمام مرأى جنود يتسامرون على أكواب شاي في محيطها، دون أدنى إجراءات أمنية، لا أحد يتساءل إلى أين تذهب أو عمن تبحث. بعد أن أعياني البحث عن مكتب كبار الضباط سألت هؤلاء الجنود ''أين أجد سايبا؟''، وهو مسؤول عسكري يشرف على الاستقبالات، فوجدته أمامي مباشرة، وخاطبني ''كنا ننتظرك''، دون أن أعي بمن أبلغه بقدوم صحفي جزائري إلى مقر القيادة العامة، حتى أني شككت في سائق الطاكسي.
النقيب سانوغو بات مسؤولا عن عدد كبير من الضباط الأعلى رتبة منه، بعد أن وشحته المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا منصب مسؤول على المجلس الانتقالي العام في البلاد. يضع النقيب في وجه زائريه تعقيدات بروتوكولية كثيرة، تبدأ بطلب الإذن من بضع الجنود في مكتب الاستقبال. طلب مني جندي أن أسجل اسمي ومعلوماتي الخاصة، وأضاف قائلا: ''هل تملك ورقة وقلما؟''. لا يملك مكتب الاستقبالات حتى سجلات إدارية، كما لا يملك الجيش، ككل، أي إمكانيات كافية لتولي مهمة استعادة أراضي الشمال.
بعد قرابة نصف ساعة من الانتظار، طلبني جندي للحاق به إلى مكتب قيادي كبير في الجيش برتبة عقيد. ضابط قوي البنية قليل الكلام، ملأت الخواتم أصابع يديه، احتار هذا العقيد من وجود صحفي جزائري في حي ''كاتي''، قائلا ''إما جرأتك أم جهلك بطبيعة المكان هما اللذان أتيا بك إلينا.. احتراما لذلك سنرى فيما تريد''، فأجبته ''أريد ملاقاة النقيب سانوغو، على أمل أن يجيبنا عن دور الجيش فيما تعيشه مالي حاليا؟''، أخبرني العقيد أن القائد العام الحالي لا يحبذ الظهور في وسائل الإعلام، وطلب مني انتظار قدومه بعد ساعتين وحينها سنرى.
نقيب لا يحب الظهور إعلاميا ويتحكم في جنرالات وعقداء
في الحقيقة، كان النقيب أمادو هايا سانوغو في مكتبه في الثكنة، علمت ذلك بعد نصف ساعة من الانتظار، لقد قدم نحوي إلى قاعة الانتظار، ومدّ يده للمصافحة واكتفى قائلا ''شكرا على اهتمامك، أترك رقم هاتفك وسيتصلون بك فور دراسة الأمر''. فعلا لا يحبذ هذا الضابط الظهور في وسائل الإعلام، ما يجعل منه أكبر لغز في البلاد. في اليوم الموالي وردني اتصال هاتفي من ثكنة ''كاتي''، من شخص قدم نفسه على أنه متحدث عسكري، فقال ''بناء على طلبك نبلغك أسفنا عن عدم إمكانية إجراء لقاء في الظرف الحالي''، وأضاف ''على كل حال لقد كلفت بإبلاغك بأن الجيش سيؤدي دوره كاملا في تجسيد طموحات الشعب المالي في بناء دولة تحترم مكونات شعبها وتبسط سلطتها على كامل تراب البلاد''، مضيفا ''مؤسسة الجيش تفضل أداء مهمة استرجاع الشمال بنفسها، في حال توفر الدعم اللوجستي سيما التغطية الجوية''. وقد علمت ''الخبر'' أن قيادة الجيش المالي سعت وراء المجموعة الدولية لغرب إفريقيا، لمدة أشهر طويلة، من أجل الإفراج عن شحنتي سلاح تم طلبها قبل سقوط الرئيس السابق، أمادو توماني توري، وقد علقت الشحنتان في ميناء داكار بالسنغال وميناء كوناكري في غينيا، وتم الإفراج عن الشحنة الثانية فقط، بعد إلحاح من فريق سانوغو، ووقوفه حائلا أمام عدد من القرارات التي رغبت فيها المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا ''إيكواس''.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.