لُقّب بالرجل الزئبق. لا تزال أزقة قسنطينة الضيقة، وهو ابن الحي الشعبي ''عوينة الفول''، تشهد له بالحنكة والدهاء في ضرب ''الجندرمة'' الفرنسية في عمليات فدائية استباحت عظمتها. عاش متمردا لأجل الوطن، ومات بطلا. وقد أجمع كل من عرفوه ورافقوه، إبان سنين الجمر، على أنه حلقة مهمة من تاريخ الفداء ضُيّعت وشابها النسيان. وهي المسؤولية الجماعية اتجاه الذاكرة الوطنية، التي تحتم نفض الغبار والغوص في شخصية مخطّط الهجمات الدقيقة بقلب مدينة سيرتا القديمة، الشهيد داودي سليمان الشهير ب''حملاوي''. وُلد داودي سليمان بتاريخ 27 مارس 19434 بمدينة قسنطينة، ابن الساسي وقروي عقيلة، ينتمي إلى أسرة تتكوّن من ستة أفراد، خمسة ذكور وبنت، حملاوي أكبرهم. تنحدر عائلته من مشتة ''أولاد علي الباي'' ناحية ''فجّ مزالة'' بولاية ميلة، انتقلوا إلى مدينة قسنطينة، وتحديدا إلى منطقة ''عوينة الفول'' للاستقرار بها، حيث حفظ هناك ما تيسّر له من القرآن الكريم في الكتّاب. وأُجبر، وهو لم يتعدى سنّ العاشرة، على البحث عن عمل ليساهم في إعالة عائلته الفقيرة التي كانت تمرّ بظروف معيشية صعبة، حيث كان يبيع الخضر مع والده، وأحيانا تذاكر السينما بمنطقة باردو. انضم إلى جبهة التحرير الوطني أواخر سنة 1955، ليلتحق بصفوف جيش التحرير سنة 1957، بعد اكتشاف أمره. آثار تبادل إطلاق النار لا تزال محفورة بموقع استشهاده وقد كان أول موقع زارته ''الخبر''، خلال رحلة بحثها عن تاريخ البطل، الذي لا يُعرف منه إلا اسمه، مكان استشهاده، الذي تحدّده لوحة تخليدية ب''لارو-كاورو'' شارع حملاوي حاليا، ذُكر فيها اسم الشهيدة ''مريم بوعتورة''، التي سقطت مع ''سي حملاوي'' شهيدة، وأُسر عضوان من المنطقة الخامسة لم يُذكرا بالاسم، وهما البشير بوالرغود ومحمد كشود. وهذا بعد معركة دارت رحاها لمدّة 4 ساعات بتاريخ 8 جوان 1960، انطلقت في حدود الساعة الثالثة والنصف مساءً، إثر معلومة وصلت للمخبرين الفرنسيين تؤكّد تمركز مجموعة من الفدائيين، يترأّسهم حملاوي، بالطابق الأول لبناية بذات المنطقة المتواجدة بوسط المدينة، يقطنها المجاهد محمد الصالح تواتي، حيث إن هذه الأخيرة لا تزال تحافظ على طبيعتها الأولى، مع آثار تبادل إطلاق الرصاص المحفورة على المحلّ وأسفل شرفة الشقة، حيث تحدّث بعض السكان، الذين توارثوا القصة كما رُويت من قِبل آبائهم، عن أعنف معركة وقعت بقسنطينة تمّ فيها استعمال أسلحة وعتاد بشري قوي يكفي لإسقاط جيش. الفرنسيس لقّبوه بالزئبق لاختفائه السريع وكثرة تحرّكاته وقد كان أول باب طرقناه لأحد قادة نواحي الفداء بقسنطينة، وهو المجاهد ''حمودي كراشة''، الذي كشف لنا حقيقة السقوط الأخير لحملاوي وحادثة استشهاده، عكس ما يُذكر وما هو متداول، مؤكّدا أن الشهيد لم يمت كما يُشاع بحي ''كاورو''، وفرنسا هي المسؤولة عن تزييف الواقعة لأجل تمويه المنتمين لنظامه، حيث أخذ حيّا جريحا ينزف إلى سجن امزيان في حالة غيبوبة لاستنطاقه، قبل أن يعود لوعيه ويفتح عينه على خائنه قائلا: ''هذا أنت يا خبيث''، وهنا قام القائد روديي بقتله عن طريق طلقة رصاص بالقلب، وهو نفس مصير الشهيدة مريم بوعتورة، التي لفظت أنفاسها الأخيرة بسجن أمزيان. وقد استرسل المجاهد أن المعركة اللا متعادلة، ما بين الشهيدين وعشرات الجنود الفرنسيين، ابتدأت برمي قنبلة، من قِبل نقيب فرنسي قتلته مريم بوعتورة، إلى مكان تواجدهما، تبعها إطلاق نار عنيف ما بين الجانبين، واستُخدمت بعدها القذائف بتعزيز أمني، لقوات الدرك ووحدات من الشرطة والأمن الفرنسي، حاصر كل المنطقة، وفقدت فيه مريم بوعتورة قدمها، وتعرّض داودي سليمان لإصابة من شظايا القذيفة، فيما كُلّلت المحاولة الثانية بالنجاح إثر نسف العمارة، حيث اخترق الانفجار كل جسمه، وسقط الشهيدان مع أرضية الشقة إلى أسفل المحلّ، وفقدا الوعي. وأضاف محدّثنا أن دهاءه وذكاءه جعله حاضرا في الثورة، مسجّلا أول عملية له صيف1957، بأمر من القيادة بمنطقة ''لابريش''، حيث ألقى قنبلة وسط المعمّرين تسبّبت في الكثير من الخسائر، مكّنته من الالتحاق بصفوف المجاهدين. وبعد اكتشاف قيطوني عبد المالك، في جنان الخامسة بوادي زياد، ارتأت الثورة تغيير التكتيك بالمدينة، بجماعة أخرى تتكوّن من 8 أفراد، كُلّف من خلالها حملاوي بمهمّة تحت إمرة كروش عبد الحميد، التابع لمسعود بوجريو، للإشراف على الفدائيين الذين كُشف العديد منهم. وقد أشار إلى أن حملاوي، آنذاك، كان على دراية كبيرة بأزقة قسنطينة وكسب شعبية واسعة، والفرنسيس لقّبوه بالزئبق، لأنه كان سريع الهرب وكثير الحركة يحمل السلاح في وضح النهار، ويدخل، أحيانا، في تبادل لإطلاق النار، دون تمكّن الجنود من القبض عليه، في وقت كانت قسنطينة ملغّمة بالأسلاك الشائكة. فرنسا قدّمت مبلغ 8 ملايين فرنك فرنسي لمن يأتي برأسه وقد وجدنا صعوبة في العثور على المقرّبين من الشهيد، إلا القليل منهم، كون أغلبيتهم توفّي، بمن فيهم والدته، كما إنه لم يتزوج حسب ما تمّ تأكيده لنا، من بينهم الفدائية ليلى سديرة بلكحل، التي، وبمجرّد سؤالنا عنه، وصفته بتمثال الفداء، وأنه دائم البشاشة، ويتمتّع بالأخلاق والذكاء وطيبة القلب، وأنه كتوم، رغم اطّلاعه على أسرار كبيرة، ولم يسجّل له موقف تعصّب أو قلق، قائلة: ''كان يملك شجاعة كبيرة، كان كالبرق في الهرب.. يكون بجانبك وفجأة يختفي دون أن تلاحظ غيابه''. وأضافت أن احتكاكها به كان بفعل تردّده على منزلها العائلي بحي الأمير عبد القادر، رفقة علي بسباس وقدور بن عباس، منذ سنة 1957، وأنه كان لا يتحدّث عن العمليات التي ينفذها، والتي تُكتشف من تشابهها، لأنه يملك طريقة خاصة به، أو بضحكة حين يتعمّد الانتقال من مكان إلى آخر. كاشفة أن أغلب العمليات الفدائية بقسنطينة، التي نغّصت على العدو، حملت بصمة حملاوي. وبطشه بالخونة كان أكثر من الفرنسيين، وقد كان حريصا على التحرّي لمعرفة الخائنين باتّصالات دائمة مع جميع خلايا الفداء. كما روت أن القوات الفرنسية شدّدت الخناق عليه، بعد هروبه من السجن في الأشهر الثلاثة الأخيرة التي سبقت استشهاده، حيث قدّمت مبلغ 8 ملايين فرنك فرنسي آنذاك، في وقت كان الراتب الشهري للموظّف لا يتجاوز 40 فرنكا، لمن يأتي به حيا أو ميتا، مستهجنة لموقف الصحافة الفرنسية في اليوم الموالي لاستشهاده، حيث زيّفت الحقيقة وأظهرت صور أسطورة الشعب ميتا لبثّ الرعب، وأُذيع الخبر عبر الراديو بعبارة القضاء على رأس الأفعى بقسنطينة، وقيل إن القوات الفرنسية وضعت حدّا لحياته في موقعة تبادل النار، وليس بسجن امزيان، وخيّم بعدها حزن كبير على أرجاء المدينة. مجنّد جزائري في الجيش الفرنسي أنقذ حملاوي بسيدي مسيد تحدّث المجاهد محمد الشريف بن يحي عن أول خلية نسوية فدائية شكّلها حملاوي بمنطقة سيدي مسيد، ضمّت ثلاث مناضلات من عائلة بن يحيى، إلى جانب غياط زليخة وحمروش مليكة، وكان يستغرق 4 أو 5 أيام، في منزل والده، من أجل التخطيط للعمليات الفدائية برمي القنابل في الأحياء أو المخامر، التي أعطت دفعا للفداء وشجّعت لخلق خلايا نسوية أخرى. حيث قال إن البطل كان دائم التحرّك بمواقع الخطر، يحمل مسدس 9 ملمتر في ظهره وقنبلة في جيبه و''الماط'' في القفة، وقد نجا مرات عديدة من الموت، لأنه كان دائما ملاحقاً من طرف الجيش. وقد ذكر ليلة كان فيها حملاوي رفقة محمد لوصيف ومجموعة أخرى بسيدي مسيد، حين تمّ إفشاء مكان تواجدهم، وسارعت عقبها القوات الفرنسية إلى تطويق المنطقة بحوالي ألف جندي، وتمكّن من الهرب رفقة محمد لوصيف الذي قتل عسكريا فرنسيا في خضم محاصرتهما ببيت لكحل الطاهر، وأُذيع خبر موته. وتابع حديثه قائلا: ''بعد 10 أيام رجع حملاوي إلى المكان نفسه، وأخبرهم أن لوصيف أصيب في كتفه، أثناء خروجهما من المنطقة، وقد اصطداما بطوق آخر، بعد أن فقد سلاحه، إلا أن مجنّدا جزائريا في الجيش الفرنسي أمرهما بالاختباء في ''شعبة'' لساعات، وتعمّد فيها تمويه الباحثين عنهم، ما مكّنهما من النجاة. كما تحدّث السيد بن يحيى عن برودة أعصاب الشهيد أثناء اجتيازهم، رفقة الشهيد قيقاية، عمار لسدّ عسكري في سبتمبر 1958، راكبين سيارة، وكان حينها حملاوي مسلّحا ومبحوثاً عنه بشدّة. هروبه في واد الرمال كان مدبّرا واستشهاد رحماني عاشور في اللحظة نفسها صدفة استقبلتنا الأخوات طرودي بأحد منازلهن بحفاوة كبيرة، حين عرفن أننا نستهدف حملاوي في بحثنا، كون قمرة وبوبة كانتا معه في خليتين منفردتين، وشاهدتان على عملياته، إلى جانب شقيقتهن فاطمة التي سكنت الجبال بعد كشف أمرها. تروي خالتي قمرة ''أخذني حملاوي، وسنه لا يتجاوز 25 سنة، إلى خليته بسيدي مبروك سنة 1958، وكان يعطينا أوامر صارمة لتكثيف الفداء. كان على قدر كبير من الحياء والشجاعة النادرة.. حبه للوطن عذري وشديد الحقد على الفرنسيين''. وتواصل حديثها ''سي حملاوي كان ذبّاح الجنود والخونة بسكين من نوع'' كلانداري ''، كنت أزوّده به من محل أخي، وينفّذ عملياته على المكشوف، وقد أرهب العدو لدرجة أنه استُعمل لتخويف أطفال المعمّرين وأصبح يُطلق عليه اسم ''الإرهابي''. والقائد كان يتعمّد تغيير ملامحه بارتداء رزة صفراء يضعها فوق رأسه وقندورة وبرنوس أزرق بارد للتمويه، ويتعمّد التغيير كلّما اكتُشفت صورته لدى المخابرات، ولم تتمكّن منه رغم الخيانات العديدة''. وفي يوم 7 جانفي 1960 توجّه حملاوي ومريمش رابح وبوبة طرودي إلى شارع جورج كليمونسوا، العربي بن مهيدي حاليا، إلى بيت القبطان ثابتي، الذي كان عميلا لفرنسا، وتنقّلت حينها فرق من الحرس وحاصرت المبنى وسط إطلاق كثيف للنار، وللنجاة قام مريمش وحملاوي بالقفز بين السطوح، وانتهت باستشهاده وهروب حملاوي والطرودي. وبعد ثلاثة أيام انتقل حملاوي، رفقة بوبة، إلى سيدي مبروك على متن سيارة، تبعتهم أخرى سوداء بها جنود ومجاهد قُبض عليه في الجبل يعرف ملامحه، وهنا بدأ إطلاق كثيف للنار، أُصيب فيه داودي سليمان برصاصة في الظهر جعلته عاجزا عن الحراك، حيث خضع لعملية جراحية بعد القبض عليه وحُوّل إلى السجن. وهنا روت الأخوات طرودي كيفية هروبه، التي كانت مدبّرة من قِبل عائلة مصلي برهان ونائبين جزائريين في المجلس الفرنسي أحدهما يُدعى ''بربوشة'' وسيدة من سطيف، دفعت فيها أموال طائلة لشراء ذمّة رائد فرنسي، الذي أرسل، يوم 11 فيفري، حملاوي مع جنديين إلى واد الرمال، المنطقة الصناعية حاليا، لتمكينه من الهروب، وشاءت الأقدار أن يصطدما بتواجد رحماني عاشور والمروكي، اللذان اشتبكا مع العسكريين ما أدى إلى استشهادهما بالموقع.