لا غرو في أن يُعجب الكثيرون بإنتاج عبد الله الغذامي في مجال النقد الثقافي، نظرا لجرأته في الطرح، ولأفكاره غير الامتثالية، ومحاولته الجادة لخلخلة اليقينيات في الثقافة العربية. ويبدو كتابه الموسوم ''الثقافة التلفزيونية.. سقوط النخبة وبروز الشعبي'' الذي صدر في 2005 خير مثال على ذلك. بيد أن المختصين في علوم الإعلام لم يتناولوه، مع الأسف، بالنقد والتحليل. وقد نعثر في بعض المقالات العلمية التي تنشر هنا وهناك على إشارة لهذا الكتاب، أو استئناسا ببعض أفكاره، وهي الأفكار التي تحتاج لمناقشة. ومن يقرأ الكتاب المذكور ينشغل بالأمثلة الذكية التي يسوقها، وينغمس في اللغة المستحدثة التي تسعى إلى تطليق الموروث من الصيغ التعبيرية، وينسى أن الغذامي يتحدث عن النخبة بصيغة المفرد، بينما يراها علماء الاجتماع في صيغة الجمع. ويسجل من يقرأه أنه يستخدم الكثير من المفردات، مثل السقوط، والتراجع، والتواري، والابتعاد عن الواجهة، ليؤكد أن النخبة فقدت وجودها المؤثر في المجتمع. لكن القليل من ينتبه إلى أن الغذامي يقرّ بقوة حضورها، في حديثه عن برنامج ''سوبر ستار'' التلفزيوني الذي يرى أنه حظي بمتابعة جماهيرية عريضة، لكن النخب الثقافية وقفت ضده. إذا، هل سقطت النخبة أم مازالت تملك حضورا وصوتا مسموعا؟ لا يجب أن نسأل عَمَّن أسقط النخبة، لأن الجواب جاهز في الكتاب: إنها الصورة التلفزيونية! وبهذا، يربط الكاتب تلاشي النخب واندثارها بالعُدّة التكنولوجية. ويرى الغذامي أن النخبة الثقافية التقليدية سقطت وزال دورها، وحلت الصورة محلها. وهكذا يستبدل، بسهولة، الصورة بالنخبة! ويحرّر هذه الأخيرة من كل شرط اجتماعي أو تاريخي أو ثقافي يرهن وجودها. كنت أعتقد أن النخبة التي يتحدث عنها الغذامي قد اندثرت في المنطقة العربية، نتيجة حركة الإصلاح التي انطلقت منذ القرن التاسع عشر، وقادها مفكرون وسياسيون وفقهاء ودعاة. وتشكلت على أنقاضها نخبة جديدة من قوى ثقافية وسياسية، قادت الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، ثم سعت لبناء الدولة الوطنية. لكن الصورة التلفزيونية دحضت اعتقادي، وأثبتت لي أن النخبة الثقافية والدينية الكلاسيكية لم تسقط، بل تعزز موقعها الاجتماعي وزاد تأثيرها، بفضل الفضائيات الدينية التي انتشرت كالفطر في المشهد التلفزيوني العربي. قد ينهرني قارئ قائلا: (لا تخلط بين مفهومي النخبة ونجوم التلفزيون، فمفهوم النجم السينمائي نحته كارل ليمل، مؤسس أستوديو ''يونفرسال'' بالولايات المتحدةالأمريكية، وتم توظيفه في النظام التلفزيوني ليجسد تقنية تسويق بعض البرامج التلفزيونية والسلع، عبر نشر صورة الشخص التام والكامل والمربح الذي يُوسِم بالنجم، فرجال الدين والدعاة في التلفزيون هم نجوم). إن هذا الرأي يجانب الصواب، لأن هؤلاء الدعاة يستمدون وجودهم من قاعدتهم الشعبية التي اتسعت، بكل تأكيد، بفضل التلفزيون. وبعضهم تهجموا على أفكار الغذامي في الواقع، قبل أن يصلوا إلى استوديوهات التلفزيون. وهذا خلافا لنجوم الفن والطرب التي تفرخ في ركح التلفزيون وتنطفئ بعد أن تغادره، كما هو شأن المتنافسين في برنامج ''ستار أكاديمي'' التلفزيوني. يعتقد الغذامي أن الصورة التي دفعت بفئات لتنضم إلى قائمة الاستقبال الثقافي، أدت إلى زعزعة مفهوم النخبة. وبهذا، يحصر سقوط النخبة في عملية تلقي الصورة. لذا، يجب التنبيه إلى أن تاريخ الصورة لا يبدأ بظهور الفضائيات، وكتاب الجيب والروايات البوليسية في المجتمعات الغربية سعت إلى توسيع دائرة الجمهور الثقافي، بل إن جمهور بعضها زاد عن جمهور بعض الأفلام والبرامج التلفزيونية، لكنها لم تزعزع النخب التي كانت سائدة حينئذ. ثم أن مساهمة ''الميديا'' في خلخلة مفهوم النخبة لا تقوم على التلقي، على أهميته، بل تستند إلى القضاء على عمودية الفعل الثقافي، القائم على الفصل بين مُنتج المادة الثقافية ومستهلكها. فالتلفزيون الكلاسيكي لم يعط الفرصة للمشاهد لإنتاج المواد التلفزيونية، أو الصورة التي يريدها. قد يقول قائل إن الميديا الجديدة قد قضت على هذا الفصل، حيث بات باستطاعة أي شخص أن يتحوّل إلى منتج للصورة والمادة الثقافية. هذا القول لا يجانب الحقيقة، بيد أنه لم يؤد إلى انسحاب النخب الثقافية والسياسية الكلاسيكية من الفضاء العام، بل عززت وجودها في الواقع بفضل هذه الميديا، والدليل على ذلك هو قيامها باستثمار مواقع الشبكات الاجتماعية الافتراضية. فتشكيل النخب يتعدّى مسألة الوسيط التقني ليُطرح على مستوى اجتماعي وسياسي وثقافي، يحدّد القوى المالكة لسلطة الكلام ويؤكد شرعيتها.