يعيش مجتمعنا، هذه الأيام، حراكا سياسيا واجتماعيا متفاوتا ؛ تحت ضغط سياسي تتحكم فيه عوامل مختلفة ؛ منها ما هو خارجي، كالضغط الوافد من رياح التغيير التي مست بعض الدول العربية ؛ أو من الضغط الاجتماعي الداخلي، المتأتي من طموحات الشباب من جهة ومطالب الطبقة العاملة من جهة ثانية، واللذان يلتقيان في السعي إلى تحسين وضعهما الاجتماعي. أما في الطرف المقابل، فنسجل مساعي الدولة وسلطتها في استقطاب هذا الحراك، بشقيه الاجتماعي والسياسي، وسعيها إلى بسط خريطة سياسة جديدة عن طريق إصلاحات دستورية تراهن عليها، كوسيلة أساسية وجذرية لتنفيذ برنامجها الإصلاحي الذي تبشر به منذ فترة.. وفي الطرف الموازي يقف المثقف الجزائري متمعنا في هذا الحراك الذي يطمح المجتمع من خلاله إلى تحسين وضعه العام، ويتساءل المثقف، عموما، عن إمكانية مشاركته في هذا التفاعل المصيري، الذي يهدف إلى تحديد التوجه العام للمجتمع، ويسعى إلى رسم خارطته المستقبلية، ويقف المثقفون من هذا الوضع موقفين مختلفين ؛ الأول منه يقف موقف المعاتب للمثقف عن عزوفه الدائم في المشاركة السياسية، وعدم الأخذ بزمام المبادرة من أجل التغيير الأفضل لمجتمعه.. ويقف الثاني موقف المتردد من المشاركة في العملية السياسية، ويقدم العذر لمن يمتنعون عن ولوج عالمها.. وإن كان موقف الأول واضح يفسره الهدف من مشاركة المثقف، والذي يعتبر من أهم محركي المجتمع نحو تحقيق أهدافه المنشودة، فإن الموقف الثاني يحتاج إلى وقفة متأنية نتعرف من خلالها عن مبررات العازفين عن دخول عالم السياسة، خاصة من بوابته الانتخابية. وفي البداية لابد من التذكير بأن الموضوع شائك، ولا ينبغي رؤيته من زاوية واحدة، كما أن الفصل فيه ليس بالأمر السهل، إذ إن دخول المثقف لعالم السياسة لديه خصوصياته، كأن يخضع لقناعة شخصية نابعة من نواياه ورؤياه لجدوى النشاط السياسي. وهذا يعني أن هناك دراسة وتصور مسبق للعملية، إذ لا معنى للصدفة أو القدر في مثل هذا الخيار، ما دام الأمر متعلق بالمثقف، ويترتب عن كل ذلك أن المثقف السياسي يتحمل المسؤولية الأخلاقية كاملة عن كل ما يصدر منه، أو من مجموعته المنتمية للزمرة السياسية نفسها في المواقف المختلفة.. ومن أسباب تردد المثقفين في خوض غمار السياسة أن المقبل على هذا النشاط ملزم بقبول أجندة معينة معدة مسبقا، تجبر الجميع على احترامها واتّباع ما يرد فيها. ومن أهم ما تحتويه الأجندة: برنامج الحزب أو الهيئة التي سينتمي إليها، بما فيها من أفكار وتوجهات سياسية (إيديولوجية) معدة مسبقا، قد لا يقتنع المثقف حتى بديباجتها، ناهيك عن ممارسات وتقاليد سياسية هدفها استمالة جهات ما أو ربح أصوات معينة. ولا ينبغي الوقوف عند الوسيلة ؛ لأن رصيد النجاح متوقف عن التنافس في جني أصوات الناخبين، إذ المهم الغاية والنتيجة الإيجابية التي تسيل لعاب الجميع. أما الحديث عن الأخلاقيات والمصداقية والشفافية، وما إلى ذلك؛ فهو ضرب من الخيال ولا داعي للتذكير به حتى لا تتهم بالخيانة للمجموعة.. هذا جزء من تصوّر عام للممارسة السياسية عندنا، والتي لها أبجديات قد تتعارض مع قناعة المثقف أحيانا.. والأمر هنا يتعلق بالعمل السياسي المحلي أو العربي، إذ قد نجد الأمر مختلفا نسبيا في دول أخرى قد يوصف العمل السياسي فيها بالأرقى مما نحن عليه من ممارسات. والأمر سيظل كذلك طالما المثقف مازال خارج هذه الدوائر السياسية (المنتجة للمسؤول السياسي عندنا).. وقد يجيبنا بعض المثقفين، على قلتهم، والذين مارسوا مهام سياسية عن طريق التعيين الإداري (الحكومي) أو بواسطة العملية الانتخابية؛ والذين لهم تجربة من خلال ما مارسوه من مهام سياسية في الدوائر الحكومية أو في المجالس المنتخبة، إذ يمكن أن نستفيد من رؤية أصحاب التجربة السياسية من المثقفين في تحديد العلاقة المجدية بين المثقف الجزائري والسياسة المحلية عندنا، لنصل إلى أهمية المشاركة السياسية للمثقف في مجتمعاتنا.. لا أريد أن أخوض، هنا، في تهميش بعض المثقفين، وهو أمر عايشه المجتمع منذ الاستقلال، لشيء في نفس السلطة، وهو ملف متكامل قد يناقش كمحور مستقل. لأننا، هنا، أردنا أن نطرح انشغالا حضاريا هاما، من خلال إدراج دور المثقف في الحراك السياسي والاجتماعي والتنموي. إذ لا يعقل أن يبقى المثقف الجزائري مكتوف الأيدي، قاطعا لتذكرة المشاهد في مدرجات الصراع السياسي والاجتماعي، وهو الأكثر فهما لوضع الأمة والأكثر إحساسا بآلام مجتمعه ؛ ولديه من الرؤى والتصورات، بل ومن الحلول المختلفة للمشاكل المطروحة، بداية بالأزمة السياسية والتي هي المحور الأساسي في احتدام الأزمات في البلاد ؛ وصولا إلى معاناة المواطن مع أوضاعه الاجتماعية اليومية..