ثمانية أيام في ثلاث مدن كانت كافية لإدراك حجم العبقرية اليابانية، التي استعاضت عن افتقار أراضيها إلى الذهب، أصفره وأسوده وأبيضه، بالذهب الرمادي، الذي يحمله رأس كل ياباني، والذي مكّنها الاستثمار فيه من تحويل نقمها إلى نعم، فلا الزلازل والأعاصير والبراكين منعوها من أن تفرض نفسها كثاني قوة اقتصادية وأول قوة تكنولوجية في العالم، ولا بشاعة ما أمعن فعله الأمريكان في هيروشيما وناغازاكي وقف حائلا بينها وبين التطلع إلى مستقبل أفضل وأجمل وأنظف وآمن.. إنها جولة في بلد يعتقد شعبه، وعكس كل شعوب الدنيا، بأن زمن المعجزات لم ينته. بمجرد أن تحطّ بك طائرة ال«إيرباص 380” العملاقة بمطار ناريتا، ثاني المطارات الدولية في العاصمة اليابانية، دونما جهد جهيد أو عناء عنيد، تحس بأن الفرق بين طوكيو وغيرها من عواصم المتوسط، ومنها باريس التي انطلقنا منها، ليس فقط الساعات الاثني عشر التي تفصل بين الإقلاع والهبوط، ولا الساعات التسع التي تفصل بين الزمن الجزائري والزمن الياباني، لكنه أيضا بنط عريض تقف فيه الثقافات والأخلاق والسلوكات على ضفتين مختلفتين. الوقت كال”سابر”.. طوكيو، التي تعني باللغة اليابانية “العاصمة الشرقية”، هي عاصمة اليابان منذ 1868، ورغم عدد سكانها الذي لا يقل عن 12 مليون نسمة، والذي قد يصل إلى 30 مليون نسمة، باحتساب الامتدادات الحضرية للمدينة، إلا أنك لا تشعر فيها بالزحمة على امتداد ساعات اليوم، فهناك لا يوجد شيء اسمه “التوقف” بعد اشتعال الضوء الأخضر، ولا يجد ذلك تفسيره، فقط، في المنشآت القاعدية “الرهيبة” التي تحويها المدينة، من أنفاق لا متناهية الطول، وجسور شديدة العلو، ووسائل نقل تذكرك بأحدث أفلام الخيال العلمي، بل أيضا في التزام الناس “المتطرف” بقواعد المرور و«آداب الطريق”. ولا يكاد التزام اليابانيين ليستثني مجالا من المجالات، فهم شعب يؤمن، حدّ العقيدة، بحكمة تقول: “لا تترك شيئا للقدر”، ويبدو ذلك جليا في تعاطيهم مع الوقت وحرصهم الشديد على دقائقه، وليس فقط ساعاته وأيامه.. هناك المواعيد على وزن التاسعة وعشرين دقيقة والرابعة و45 دقيقة، وليس على وزن “بعد صلاة العصر” أو “يوم الخميس مساء” أو “الأسبوع القادم”. وصدق المثل العربي الذي يقول: “ليس من سمع كمن رأى”، ففي اليوم الثاني من الزيارة استُقبلنا في المركز الإعلامي للخارجية اليابانية.. مبنى ضخم من عدة طوابق، مشكل من قاعات فسيحة تضم عشرات الموظفين الشباب المركزين في حواسيبهم، إنهم، ودون ضجيج، يطالعون كل يوم مئات الصحف العالمية وبكل لغات العالم.. إنهم آذان اليابان وعيونها. هنا وداخل البناية الجميلة، التي لا تضاهيها حجما وجمالا مقرات أكبر الوزارات عندنا، استقبلنا السيد ماسارو ساتو، مدير المركز والناطق الرسمي المساعد للخارجية اليابانية.. مباشرة بعد اللقاء اقتربت منه، وبمساعدة المترجمة، سألته عن إمكانية إجراء حوار صحفي، لم يتردد لحظة في الموافقة وأخذ مني ما رآه مناسبا من معلومات ثم انصرف. بعد يومين من اللقاء، وفي المركز الإعلامي للدورة الخامسة من قمة “تيكاد” بيوكوهاما، وكنت قد فقدت الأمل في إجراء الحوار، لأن الصورة التي أخذتها في مخيالي للمكلفين بالاتصال عندنا هي تعهّد بتقديم المطلوب من المعلومات ثم هاتف مغلق، أو لا يرد في أحسن الحالات، فوجئت بمساعدة ساتو تقترب مني لتطلب مني المحاور التي يفترض أن يدور حولها اللقاء، واليوم الموالي دعتني مساعدة أخرى إلى قاعة مخصصة لتنشيط الندوات الصحفية من أجل إجراء الحوار. فلا مصادر “عليمة” ولا “مطّلعة” ولا “مأذونة” ولا “مقرّبة” ولا “موثوقة”.. ولا هم يحزنون. نظافة حد “الهوس” هوس اليابانيين بالوقت لا يضاهيه إلا هوسهم الشديد بالنظافة، فيمكنك أن تجلس على أي رصيف أو شارع أو طريق دون خشية اتساخ ملابسك. ورغم قصر المدة التي قضيتها في طوكيو إلا أن مواقف الإعجاب والطرافة في هذا المجال لم تكن قليلة، ففي إحدى الليالي نبّهني الصديق جميل عفيفي، رئيس تحرير “الأهرام الدولي” المصرية، إلى فتاة في مقتبل العمر تنظف كابينة هاتف عمومي، كما لو أن الأمر يتعلق بقطعة أثاث في بيتها. التدخين في اليابان ممنوع حتى في الهواء الطلق، فإن أن أردت أن تدخّن سيجارة عليك بالبحث عن الأماكن المخصصة لذلك، والتي يسهر عمال البلدية على تنظيفها 4 مرات في اليوم الواحد. ورغم شغف اليابانيين الشديد بالتبغ، إلا أن ذلك لم يدفعهم إلى معارضة الإجراء أو التحايل عليه. سألت الناطق الرسمي المساعد باسم الخارجية اليابانية عن مصدر هذا الهوس بالنقاء والصفاء، فقال: إنها النتيجة المنطقية لجهود القائمين على منظومتنا التربوية، الذين ضمّنوا البرامج والمناهج والنشاطات اهتماما خاصا بتعويد الأطفال على نظافة الذات والمحيط، انطلاقا من مبدأ أن الحياة تكون أفضل كلما كانت البيئة أنظف. ومن حق الزائر لطوكيو أن يتساءل عن مصير أطنان القاذورات التي يلقي بها السكان في مكان لا تراها العين ولا تبلغ روائحها أنف، والجواب في تجربة فريدة أنتجها ذهب اليابانيين الرمادي.. 7 مراكز لتحويل النفايات القابلة للاسترجاع، والتي تستعمل بعدها في تزفيت الطرقات وفي مواد البناء، ومركز ضخم لتصريف النفايات غير القابلة للاسترجاع، والتي خصصت لها البلدية مساحات على أطراف المدينة، تتوفر على ثلاثة شروط أساسية فرضها دافعو الضرائب.. لا صوت ولا رائحة ولا ضرر على الصحة والجو. كنا من المحظوظين الذين وقفوا على التجربة عن قرب.. مراكز تستعمل أحدث ما بلغته تكنولوجيا البشر في مجال التحويل والاسترجاع، ومساحات للتصريف على مد البصر، التجول فيها بالحافلة يحيلك إلى أجمل منتجعاتنا وأكثرها نظافة، حتى الشاحنات المخصصة لجمع النفايات تشعرك بأن الأمر يتعلق بنقل أشياء ثمينة. يوكوهاما.. عروس على خليج طوكيو الوصول إلى يوكوهاما، ثاني أكبر مدينة في اليابان، يشبه الوصول إلى الحلم، فلو طلبت من أي رسام أن يمكّنك من لوحة تحمل تصوره للمدينة المثالية، لخرجت اللوحة غير بعيدة عن هذا التجمع الحضري الذي وبالرغم من سكانه الذين يفوق عددهم الثلاثة ملايين، إلا أن الهدوء سمته الأولى. المدينة الممتدة على خليج طوكيو، بمينائها الكبير، كانت محطة الأوروبيين الأولى للدخول إلى اليابان، وتشهد على ذلك الكثير من البنايات، ومنها اثنتان انتصبتا على الكورنيش وسط ساحة فسيحة تعج بالسياح بعد ساعات العمل، حوّلت الأولى إلى مطاعم ومقاهٍ، بينما تحوي الثانية محلات لبيع الهدايا التذكارية وقاعة للعرض. في اليوم الثاني بيوكوهاما، وكان يوم أحد، قررت أن أتحرر قليلا من أجواء ال”تيكاد” فتسللت خارج “أسوار” المركز الصحفي لأتجول ساعات بين أرجاء المدينة. إبداع هندسي في كل مكان، بنايات تناطح السحاب، تكسر جبروتها بين الفينة والفينة مساحات خضراء وأماكن للراحة والاستجمام غاية في التناسق والجمال، كما هو حال مجمّع التسلية والألعاب الذي تطاير أجزاء هنا وهناك، بقدر يعطيك الانطباع أن هذه المدينة تعض على إنسانيتها بالنواجذ، ولا تريد أن تلتهمها كتل “البيطون” كما التهمت مدنا كثيرة في العالم.. القاعدة في كل المدن اليابانية أن يخصص ما لا يقل عن الثلاثين بالمائة من المخططات العمرانية للخضرة، ولم تشذ يوكوهاما عن القاعدة. يا للعجب.. طابور على أبواب متحف وأنا في طريقي إلى الميناء، استوقفني طابور طويل أمام بناية جدرانها مغلفة بالآجر الأحمر والزجاج، فتوقفت، وأمعنت فضولي، إلى أن أدركت بأن الجماعة، أطفال وشباب وشيوخ من الجنسين، ينتظرون فتح أبواب أحد المتاحف التي تعجّ بها المدينة. وعندما سألت، قيل لي إن الدخول بمقابل ليس بالزهيد.. حينها قفزت إلى رأسي مشاهد لمتاحفنا الخاوية التي تئن من فرط الوحدة والهجر والفراغ.. وحينها تأكدت للمرة المليون بأن الفارق بيننا وبينهم ليس فقط في عدد الساعات وبعد المسافات. وصلت ساحة الميناء الغارقة وسط خيم بيضاء تتفجر نشاطا، موسيقى وألعاب ومسابقات فنية، قضيت أكثر من ساعتين أستمتع بمنظر التلاميذ يبيعون منتجات مصدرها شعوب فقيرة، يرتدون قمصانا كُتب عليها “ما فائدة أن تعيش غنيا في عالم فيه ملايين الفقراء”، لا يكفون عن مناداة الزائرين والمارة يحاولون إقناعهم بجدوى المساهمة في رفع الغبن عن شعوب جائعة ومحتاجة.. كم كنت أتمنى أن يقضي معي القائمون على منظومتنا التربوية ذلك الوقت المسروق من البراءة، ليكشفوا بأن بعض الخلاص يمر حتما من هنا. الأمن في البلاد عموما، وفي يوكوهاما بصفة خاصة، إنجاز ياباني آخر، ففي أول ليلة بالمدينة سألت المترجمة عن طقوس السهر بها، فردت ضاحكة: “هنا يمكنك أن تخشى على كل شيء إلا على أمنك”. هو ما وقفت عليه طيلة الأيام الثمانية التي قضيتها هناك.. فلا زاوية تخلو من دوريات الشرطة الراجلة أو المنقولة على أحدث أنواع السيارات والدراجات النارية. كاميرات المراقبة في كل مكان، مساحات تجارية وسيارات أجرة تشتغل على مدى ساعات اليوم ال24، فطوكيو، وعكس غالبية العواصم الأوروبية، مدينة لا تنام، سكانها مغرمون بالعمل في النهار والسهر حتى الفجر في الليل، وقبل هذا وبعده شعب هادئ ومسالم. وإذا كانت العادة في أكبر مدن العالم أن سمعة “تشاينا تاون”، الأمنية ليست الأكثر بريقا، لكنها في يوكوهاما تقف على النقيض تماما، لأن الحي الصيني بها متحف مفتوح على السماء، تقاليد وثقافة ولغة وطقوس وسلوكات أخرى لا تخرج كلها عن قواعد الأمان والنظافة. الخبر تلتقي أحد الناجين من التفجير الذري بناڤازاكي ”اعتقدت بأنها نهاية العالم” اللقاء بأحد الناجين من تفجير ذري لا يعادله لقاء مع أي شخص عادي، كان ذلك في قاعة بمبنى مخصص لتخليد ذكرى ضحايا القنبلة الذرية المحاذي للمتحف في ناڤازاكي. قاعة متواضعة تنتهي إلى لوحة تحمل خريطة التفجير، وبعد لحظات دخل السيد شيماوارا، الذي وبالرغم من سنواته الثلاث والثمانين إلا أنه بدا في قمة عنفوانه، لا تكاد البسمة تغادر محياه، وجاء محملا ببعض الوثائق والكثير من المآسي. يرفض السيد شيماوارا الجلوس، ولتبرير ذلك يقول: “أنا لا أروي قصصا للأطفال قبل النوم.. أنا أروي قصة شعب أرادوا أن يبيدوه”، ثم يمضي في رحلة شاقة ومؤلمة داخل تلافيف ذاكرة لا تموت فيحكي: “كنت يومها خارج البيت، في مدرسة بعيدة، حيث أقيم، وفجأة دخل علينا المعلمون وطلبوا منا أن نغادر المكان وأن نلتحق بذوينا دون أن يخبرونا عن السبب.. قررت العودة إلى المنزل سيرا على الأقدام، وفي الطريق فوجئت بدوي ّلا قبل لأذن به وضوء يعمي الأبصار يغطي السماء، تلتهما عاصفة مدمرة، ودون أن أشعر ألقيت بنفسي داخل بركة ماء واختفيت وراء أكمة، وما هي إلا لحظات حتى فقدت الوعي تماما. بقيت هكذا حتى منتصف النهار، عندما استيقظت على اثنين من الجيران أعرفهم جيدا، وبعد أن أسعفاني واسترجعت ما أمكن استرجاعه من وعي، علمت منهما أن المدينة تعرضت إلى تفجير غريب يشبه نهاية العالم، أو هو نهاية العالم كما كنا نعتقد”. يتوقف السيد شيماوارا قليلا، يسترجع بعض أنفاسه المتسارعة ثم يضيف: “تمالكت نفسي، واستجمعت قواي، وسارعت الخطى إلى البيت. في الطريق كان المشهد أبوكاليبتيكيا مروعا، أرض محروقة، ومبان تحولت إلى فتات وأشجار إلى رماد. رائحة الموت غطّت المكان، وأعداد الجثث التي تعترض سبيلي بالمئات، الأحياء يجرون في كل مكان، وكأن المدينة أصيبت بلوثة عصبية، باحثين عن ذويهم، وفاقدين لعقولهم، ورجال إنقاذ يحاولون تدارك وقت تأخر كثيرا.. وصلت إلى البيت وذهلت عندما اكتشفت بأن ما بقي منه هو مجرد جدران تتهيأ للسقوط. الدخان في كل مكان، وجثة أمي تتوسط المطبخ، يبدو أنها كان تحضّر شيئا يؤكل، وليس بعيدا عنها وجدت جثة شقيقتي الصغرى.. سحبتهما إلى الخارج قبل أن أكتشف جثة شقيقي الأكبر على بعد أمتار قليلة”. فتح محدثنا باب الأسئلة بعد بضع دقائق من صمت يتكلم، وبعد أن قال: “ما حدث بعدها تحصيل حاصل.. المأساة وقعت، وكان علي أنا ابن الخامسة عشر أن أواجه تبعاتها بقوة. لا أدري إلى اليوم مصدرها.. ربما هو الإحساس بدين للناجين تجاه الضحايا”. سألت السيد شيماوارا عن مشاعره اليوم تجاه الأمريكان الذين ألقوا بالجحيم على هيروشيما وناڤازاكي: “ربما تستغربون إذا قلت لكم بأنه إحساس عادي. أعتقد أن المشكل النفسي هو عندهم. أنا لا أشعر بالحاجة إلى الثأر، فهل يشعرون هم بالحاجة إلى الاعتراف وطلب الاعتذار”. وسألته عن تأثير هول ما عاشه على حياته النفسية والجسدية اليوم فقال: “الإبقاء على حياة الذاكرة لا يعني أبدا الوقوع رهينة لها، وعلى الرغم من ذلك فإنني لا زلت أعاني إلى اليوم من النوم المضطرب، فأنا لا أستطيع النوم وسط الظلمة. كما أن أي صوت أسمعه وأنا نائم أتخيله تفجيرا، ضف إلى ذلك إصابتي السابقة بمرض عضال مسّ جهازي المناعي، وقضيت سنوات طويلة في علاجه وإصابتي الحالية بسرطان المجاري البولية”، قبل أن يضيف: “ما يساعدنا نحن الناجون في تجاوز مآسينا النفسية هو انشغالنا اليوم بتحيين الذاكرة، وبدفع الأجيال القادمة إلى التفكير جديا في مواجهة هذا الجنون العسكري والعلمي، الذي يمكن أن يتكرر وبشكل أبشع في أي زمان وفي أي مكان”. وصية الناجي شيماوارا لم تذهب سدى، وهو ما لاحظناه في زيارتنا لمعهد دراسات الحد من الانتشار النووي، الذي أطلقته جامعة ناڤازاكي، والذي يبحث في محاصرة ذلك “الجنون”، عبر الاستعانة بأكبر الخبراء القانونيين في اليابان والعالم. حكاية “النهوض المعجزة” بعد جريمة “الولد البدين” ناڤازاكي.. المستحيل ليس يابانيا في مدينة ناڤازاكي تكتشف صورة أخرى من العبقرية اليابانية، عبقرية “النهوض والعودة”. فكم عدد المدن في العالم التي بإمكانها أن تستجمع قواها بعد تعرّضها لتفجير ذري، أتى على الأخضر واليابس فيها فدمّر 90 بالمائة من منشآت ومباني المدينة، وخلّف ما لا يقل عن 75 ألف قتيل، 95 بالمائة منهم مدنيين، إضافة إلى عدد لا يحصى من المصابين بعاهات وإعاقات وأمراض خطيرة ومزمنة ومكلف علاجها؟ الأكيد أن الجواب هو “قليل جدا”.. لكن “المستحيل ليس يابانيا”. وصلنا إلى ناڤازاكي ظهرا، بعد ساعتين من الطيران على متن رحلة للجوية اليابانية، مطار كبير لا يقل حجمه عن حجم مطارات كبريات المدن العالمية.. في الطريق إلى “وسط البلد” تكتشف بأن المدينة تغرق في خضرة الغابات وزرقة الماء، وبالنظر إلى عمرانها ومنشآتها، يصيبك الشك في أن هذا المكان تلقى ذات يوم ثاني قنبلة ذرية صنعها الإنسان. ناڤازاكي مدينة كبيرة، في أقصى جنوب غرب اليابان شمال غربي جزيرة كيوشو على خليج كان مرفأ طبيعياً تمّ تحويله إلى ميناء عصري، كما أنها ميناء تجاري مهم، ومركز صناعي حيوي يختص في إنتاج السفن. كان عدد سكان ناڤازاكي في عام 1973 نحو 421 ألف نسمة، وصار عددهم في عام 1995 نحو 450 ألف، ويقدّر عددهم حالياً بنحو 465 ألف، ومن المتوقع أن يصل عددهم في عام 2015 إلى 475 ألف نسمة، فهي من المدن ذات النمو السكاني البطيء. تتميّز مدينة ناڤازاكي بمخططها الحر مع ارتفاع نسبة المساحات الخضراء؛ إذ تنتشر الحدائق العامة في أرجاء المدينة كافة. ومن أشهر حدائق المدينة “حديقة السلام” التي فيها مبنى المركز الثقافي العالمي العريق الذي يعود تاريخه إلى عام 1955، والتي تضم أيضا “نصب السلام”، وهو أحد أكثر معالم المدينة زيارة. في وسط المدينة تنتشر الكثير من المعالم التاريخية المهمة التي تعود في أغلبها إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر، وعلى رأسها المعابد البوذية وجسر ميغانباشي التاريخي، إضافة إلى كنيسة كاثوليكية بفن عمارة أوروبية من نهايات القرن التاسع عشر. بعد وجبة الغذاء في مطعم ياباني صرف ينتصب فوق حي تقسمه شوارع ضيقة، تذكرك بقصبة العاصمة أو سويقة قسنطينة، انتقلنا إلى “حديقة السلام” الممتدة على مساحة واسعة من مرتفعات المدينة، خضرة على مدّ البصر ونافورات وأعمال فنية غاية في الجمال، لعل أشهرها “نصب السلام”، الذي وضع هنا ليلفت الانتباه إلى أن المدينة التي تعرّضت إلى أبشع ما أنتجته وحشية الإنسان، قبل 78 عاما، تقدّم اليوم للعالم نموذجا متفردا في التسامح والحوار والدفاع عن الحق في الحياة الكريمة. «حديقة السلم” تضيق بالزائرين، فالطقس دافئ والسماء صافية، سياح من كل اللغات والألوان وتلاميذ المدارس يتداولون على ساحة النصب، ينشدون أغاني الوطن ويرددون شعارات تأبى النسيان ويغرقون المكان بالورود. إلى هنا كانت المشاعر حيادية، فجمال الحديقة وتناسقها لا يتركان في رأسك مساحة للتفكير في أشياء أخرى، لكن وبعد أمتار قليلة قطعناها نزولا على سلم كهربائي ثم صعودا على تلة صغيرة، ينقلب منظومتك النفسية رأسا على عقب. أنت الآن في مواجهة “الهيبوسنتر”، أو المكان الذي سقطت فيه القنبلة الذرية التي أطلقتها الوحشية الأمريكية على ناڤازاكي.. مزيج معقد من الانبهار بجسامة الحدث الذي غيّر وجه التاريخ، والتحسر على ما خلفته الجريمة من خسائر خرافية مسّت البشر والحجر والشجر، والإعجاب بشموخ هذا الشعب الذي أعاد بناء كل شيء حتى ليخيّل إليك بأن الأمر مجرد أسطورة وليس حقيقة. وضعت وردة على قاعدة النصب الذي يتوسط “الهيبوسنتر”، ودون أن أشعر تأخرت خطوتين ووجدتني أقرأ فاتحة القرآن الكريم، إيمانا مني بأنه النص المقدس الأكثر ملاءمة لقيم السلم والسلام. ثقل المكان والزمان أنساني الالتفاف إلى الوراء حتى أدركت بأن مرافقي ابتعدوا عني بعشرات الأمتار، في الطريق إلى متحف التفجير الذري، الذي يحمل آثار الجريمة النكراء، ويقاوم مرض اضمحلال الذاكرة، ويخلّد مقاومة الشعب الياباني للهجمة المدمرة غير المسبوقة، كما يحذّر من عواقب الاستمرار في سباق التسلح النووي. يضم المتحف، الممتلئ بالباحثين عن الحقيقة من تلاميذ وزوار عاديين، ساعات حائطية توقفت عقاربها عند زمن التفجير، وسلم حجري يحمل آثار التفجير المروّع، وملابس وأشياء خاصة بقيت شاهدة على الجريمة، إضافة إلى الكثير من المخططات واللوحات والنصوص التي تعيد رسم شكل المدينة قبل “لحظة الفناء” وبعدها. الرئيس ببذلة العمال لا تكتمل زيارتك إلى اليابان إلا بالاطّلاع على تفاصيل بعض معجزتها التكنولوجية والصناعية، والتي هي أغلى ثمرات ذهبها الرمادي، ففي “باناسونيك سنتر”، بالعاصمة طوكيو، كنا من القلائل المحظوظين الذين سُمح لهم بدخول “مخبر” الأبحاث الخاص بمشروع “البيت الذكي”.. هناك اكتشفنا قطعة مما ترسمه العقول اليابانية لمستقبل شعبها والعالم.. أفكار شديدة الدقة والتطور تستغل تكنولوجيا الاتصال للوصول إلى مدن تستهلك أدنى ما يمكن من الطاقة في مقابل أقصى ما يمكن من الرفاهية. مع العلم أن “باناسونيك”، التي تأسست سنة 1918، هي من أكبر الشركات العالمية المختصة في صناعة الإلكترونيات، وتوظف أكثر من 300 ألف عامل حسب أرقام 2012. في مصنع “نيسان” للسيارات بأوباما، اكتشفنا كيف تسيّر الشركات الكبرى، التي تستغل كل إمكانيات الإنسان والزمان والمكان للوصول إلى منتوج تنافسي، فجزء كبير من هذا المركب الضخم، الذي يملك ميناءه البحري الخاص، يسير آليا، وعندما سألت أحد المسؤولين عن تأثير هذا الخيار على عدد العمال قال: “لم نسرّح عاملا واحدا، كل ما في الأمر أن أخطر المهام وأصعبها أوكلت اليوم للرجل الآلي، أي أن نيسان قلّصت من ضغط العمل وليس من عدد العمال”. أما خطوط الإنتاج التي يشغلها العمال، فتقترح عليك لوحات فنية تنقلك إلى أكثر مسارح العالم إبداعا.. فالوقت هنا يحسب بأعشار الثانية، وحركات الناس بالمليمتر. الكل يؤدي ما يوكل له في تناسق سريالي، وكأنه رقصة بالي محكمة، حتى لا تكاد تصدق بأن الأمر يتعلق بمصنع للسيارات. في مصنع “كيتاجيما شيبوري” تكتشف نوعا آخر من العبقرية، عبقرية التواضع وتقديس العمل اليدوي، فالمؤسسة صغيرة وعائلية، تختص بتحويل الصلب إلى صفائح تستعمل عادة في صناعة الطائرات والصواريخ ومركبات الفضاء.. نحن هنا أمام قمة ما يمكن أن تصله الصناعة من دقة. استقبلنا رجل يرتدي بزة مبقعة بسواد الاحتكاك بالآلات والمواد الأولية، اعتقدت في البداية أنه عامل بسيط، ولا أخفي سرا أن “كبرياء” الجزائري تحرّك فيّ للحظات، وقلت في قرارة نفسي: ما هذه الاستهانة، ألا يوجد مسؤول في هذه المؤسسة يستقبلنا؟ وبكل “وقاحة” طرحت السؤال عليه، وكم كانت صدمتي كبيرة عندما أخبرني بأنه عامل فعلا على إحدى الآلات، لكنه في الوقت نفسه رئيس مجلس الإدارة، اعتذرت للسيد مينورو كيتاج إيما على “خطيئتي”، فالمسؤول عندنا، مهما كان صغيرا، يلبس أغلى البذلات ويركب أفخم السيارات، ويجلس على المكاتب الفارهة، فما بالك لو أن زبائنه “بوينغ” و” إيرباص” و” نازا” و” أيروسبيس”؟ م. ب تفاصيل الجريمة الأمريكية في السادس من شهر أوت من كل عام، يحيي اليابانيون الذكرى الدموية لجحيم القنبلة الذرية التي ألقاها الجيش الأمريكي على مدينة “هيروشيما” عام 1945. وبعد ثلاثة أيام، وبالتحديد في التاسع من أوت 1945، ألقيت قنبلة ذرية ثانية من البلوتونيوم المشع، هذه المرة لتدمر مدينة ناڤازاكي. في اليوم التالي للانفجار، أي في العاشر من أوت 1945، استسلم الإمبراطور الياباني هيروهيتو دون أي شروط. وحسب التقديرات في نهاية عام 1945 فإن ضحايا قنبلة هيروشيما قدّر بحوالي 140 ألف نسمة، أما عدد ضحايا قنبلة ناڤازاكي فتجاوز السبعين ألف. وعلى خلاف القنبلة التي استهدفت هيروشيما، والتي صنعت أساسا من مادة اليورانيوم، فإن القنبلة الثانية التي ألقيت على ناڤازاكي كانت مصنوعة من مادة البلوتونيوم. وانفجرت بقوة تعادل قوة 21 طنا من المتفجرات العادية. ويعتبر البلوتونيوم مادة أقوى بكثير من اليورانيوم. وقد قضى عدد كبير من ضحايا الهجوم الثاني ذوبانا أو حرقا على الفور. كما أن عشرات الآلاف من الذين أصيبوا بجروح مختلفة لاقوا حتفهم تباعاً في السنين التي تلت هذه النكبة. قبل إلقاء القنبلتين زوّدت الاستخبارات العسكرية الأمريكية البيت الأبيض بقائمة من الأهداف التي اعتبرت حيوية وهي: “كيوتو” و«هيروشيما” و«يوكوهاما” و«كوكورا” و«نيغاتا”، لكن كيوتو حُذفت من القائمة فيما بعد، باعتبارها مدينة ذات بعد تاريخي وثقافي لدى اليابانيين، وأُبعدت طوكيو لأنها العاصمة، ولم ترد القيادة الأمريكية آنذاك أن تزيل اليابان، كل ما أرادته هو تركيعها. وتم استبدالها بناڤازاكي. واختيرت هيروشيما وناڤازاكي لكونهما مركز اتصالات لحركات الجيش الياباني، فلم توجد في أي من المدينتين مصانع عسكرية أو معسكرات ضخمة للجيش الياباني، والنقطة الأخرى التي ساهمت في اختيار المدينتين هي كونهما لا تحتويان على سجون للمعتقلين من الجيش الأمريكي. تم تصنيع القنبلتين في الولاياتالمتحدة، وساهم علماء من بريطانيا وكندا، إضافة إلى علماء أمريكيين في تصنيع القنابل ذات الانشطار المصوّب التي تم إسقاط إحداها على مدينة هيروشيما وقنابل الانشطار ذات الانضغاط الداخلي التي تم إسقاط إحداها على مدينة ناڤازاكي. وكان الاسم السري لمشروع التصنيع هو “مشروع مانهاتن”، وتم اختبار أول قنبلة في منطقة تدعى صحراء “ألاموغوردو”، الواقعة في ولاية نيو مكسيكو في الولاياتالمتحدة. واتخذ القرار بإسقاط القنبلة من قِبل الرئيس الأمريكي آنذاك هاري ترومان. تم تكليف الطيار تشارلس سوييني، الذي كان يقود طائرة من نوع “بوكار” بإلقاء قنبلة “الولد البدين” على مدينة ناڤازاكي. وحسب المصادر الأمريكية، فإن الطيار لم يكن يعلم بأنه يحمل قنبلة ذرية. وقد لاقى قرار وضع هذه الطائرة فيما بعد بمتحف الطائرات الحربية الأمريكية اشمئزاز الكثيرين.