ممّا لا شكّ فيه أنّ من أبرز وأعظم المعاني الّتي يُجدِّد صومُ رمضان بعثها، معنى الوحدة الّتي تجمَع المسلمين قاطبة من شرق الأرض إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. المسلم العربي في بلاد العرب، والمسلم الأندونيسي والماليزي والأفغاني والباكستاني والصيني والهندي في بلاد آسيا، والتركي والأوروبي المسلم في أوروبا، والأمريكي المسلم في أمريكا.. كلّهم قد وحَّدهم رمضان في عبادةٍ واحدة لله ربّ العالمين، لها الكثير من التّأثير على نظام حياتهم، حيث يستيقظ الجميع في وقت السَحَر ليتهيّأوا للصّيام، كما يستعدّ الجميع أيضًا لتناول طعام الإفطار في وقت الغروب. ولهذه العبادة الجليلة تأثير عقدي وفكري ونفسي عميق على الإنسان المسلم، إذ شاءت الحكمة الإلهية أن يكون نزول القرآن في شهر الصّوم، ليكون المحور الجامع لكلّ شؤون المسلمين، منه يستمدون مقوّمات حياتهم العامة، ويسترشدون بهداياته الشّاملة لكلّ مجالات الحياة والنشاط الإنساني الموّار. كما أنّ لهذه العبادة تأثيرًا روحيًا وأخلاقيًا كبيرًا مشهودًا، إذ تغصُّ المساجدُ بجمهور المصلّين المقبلين على تلاوة كتاب الله تعالى وتدبّر أحكامه وهداياته بخشوع واستكانة لله ربّ العالمين، فتصفو الأرواح وتزكو النّفوس، ويحسّ الجميع بوحدة الأمّة الكبرى من خلال الارتباط اليومي بالقرآن العظيم طيلة أيّام الشّهر الفضيل. إنّ أمّة تتوحّد في نظام حياتها، وفي القدرة على ضبط نوازع شهواتها ومآرب غرائزها، وتتوحّد في مرجعية فكرها وعقيدتها ومنظومة حياتها في شتى المجالات، كما تتوحّد في مشاعرها وأشواقها وآمالها، ويتحقّق لها ذلك من خلال عبادة واحدة، وفي شهر واحد، لابدّ أن تكون مهيأة للنّصر والعزّة والمجد، ولابدّ أيضًا أن تكون عصيّة على أعدائها ومناهضي مشروعها ورؤيتها ومنهجها في بناء الإنسان الصّالح وصياغة الحياة والفكر والحضارة. إنّ صوم رمضان عبادة وقُرْبَى وركن جليل يوحّد بين المسلمين في أوقات الفراغ والعمل، وأوقات الطعام والشّراب، كما يضفي على علاقاتهم وتصرّفاتهم وسلوكاتهم وقعًا فريدًا، بما يُفرغ عليهم من سكينة الإنابة إلى الله، وبما يُرطّب ألسنتهم بالذِّكر والتّسبيح ويعفّها عن التّجريح والإيذاء والتّخوّض في أعراض خلق الله، كما يسدّ عليهم منافذ الشرّ والتّفكير فيه، ويملأ قلوبهم وأفئدتهم بمحبّة الخير لعباد الله وخلائقه عامّة، ويغرس في نفوسهم وعزائمهم خُلق الصّبر ومجابهة مشاق الحياة بثبات مهما عظمت ومهما اشتدّت وطأتها. ولنا أن نتصوّر أو أن نفترض لو يمكن أن تستمر معاني هذه الوحدة الّتي نحسها في شهر الصّوم قائمة في واقع حياة الأمّة المسلمة وهي رقم ضخم جدًّا من عدد سكان الأرض، وهي الّتي تتوزّع أراضيها في كلّ جهات المعمورة، وهي الّتي تمتلك من الثروات والخيرات ما يجعلها من أغنى أمم الأرض.. لو استمرّت معاني هذه الوحدة في الحضور، ولو تمّ تفعيلها في الواقع الحيّ المتحرّك، هل هناك قوّة في الأرض تستطيع الوقوف في وجه هذه الأمّة وتحريف وجهتها في الحياة إلى غاية أو إلى وجهة لا ترغب فيها؟! أعتقد جازمًا أنّ ذلك لا يمكن أبدًا، لأنّ الوحدة قوّة وعزّة ، بينما التّشتّت والخلاف ضعف ووهن. أستاذ بجامعة تبسة