الاستعراض العبثي الذي قام به وزير الدفاع المصري سرعان ما تحوّل إلى مأساة دامية، والعجيب في الأمر أن الإدارة الأمريكية التي طالما اتُّهمت بأنها داعمة لحكم الإخوان المسلمين في مصر ما زالت تدرس إن كان ما حدث في مصر مساء يوم 3 جويلية الفارط هو انقلاب أم لا؟! عندما يظهر جنرال ببذلته ورتبته العسكرية على شاشات التلفزيون ويقرأ بيانا عسكريا يقضي بعزل رئيس منتخب وتعطيل العمل بالدستور الذي تمت المصادقة عليه في استفتاء شعبي حر قبل بضعة أشهر فقط، وتعيين موظف في الدولة برتبة رئيس المحكمة الدستورية في منصب رئيس الجمهورية المؤقت، وتنفيذ كل هذه الأوامر العسكرية تحت حراسة الدبابات وانتشار الجنود في الساحات، يظل الناطق باسم البيت الأبيض بعد مرور كل هذا الوقت يصرح بأن الإدارة الأمريكية “تأخذ وقتها لتحديد طبيعة ما حدث في مصر”! صحيح أن إسرائيل الحليفة المدللة للولايات المتحدةالأمريكية، والتي تعد رغباتها أوامر بالنسبة لحكام أمريكا، لم تتردد في حث الإدارة الأمريكية على عدم قطع المساعدات عن الجيش المصري لأن “فشل الانقلاب على مرسي يعني إعادة بناء الدولة المصرية بشكل لا يتماشى مع مصالحنا والغرب”، كما صرح بذلك وزير الحرب الصهيوني الأسبق بن اليعازر. طبعا في زمن الفوضى الخلاقة لم يعد مستغربا أن يقوم أعضاء المحكمة الدستورية بذبح الشرعية الدستورية في جو احتفالي، وبعد أن سالت دماء المدافعين عن الشرعية بغزارة أمام مبنى الحرس الجمهوري، تهاطلت ملايير الدولارات من الدول الخليجية النفطية على خزائن مصر، وكأن قتل المتظاهرين في صلاة الفجر قد طمأن ملوك السعودية والإمارات والكويت على جدية جنرالات مصر في فرض الأمر الواقع، مهما كان الثمن لإنهاء حكم الإخوان بمنطق الحديد والنار. كل المؤشرات تدل على أن المرحلة الانتقالية التي حددها الإعلان الدستوري تتحول إلى مرحلة “انتقامية”، على حد تعبير إحدى الأكاديميات المصريات، فالسجون المصرية بدأت تأخذ نصيبها المفروض من أعضاء القيادات ومناضلي الأحزاب الإسلامية، وعادت قوات الأمن المركزي إلى عادتها القديمة في القبض على الإخوان بعد أن جمّدت نشاطها لما يقارب السنة أمام الاحتجاجات العنيفة لنشطاء حركة “تمرد” وجماعة الكتلة السوداء (بلاك بلوك) وأعضاء جبهة الإنقاذ، وكأن الطبخة الانقلابية كانت معدة سلفا، وتنتظر فقط حشد العدد الكافي من مناهضي الرئيس مرسي في الميادين للإعلان عنها. لقد استطاع الإعلام المصري المختص في قلب الحقائق وترويج الأباطيل وتقديم ما حدث على أنه ثورة شعبية ساندها الجيش المصري! وللأسف مازالت ذاكرة الجزائريين تحتفظ بتفاصيل الدور المخزي الذي قام به الإعلام المصري في تصوير الاعتداء على فريق كرة القدم الجزائري في القاهرة على أنه مجرد تمثيلية من اللاعبين الجزائريين الذين قاموا بتهشيم نوافذ الحافلة التي كانت تقلهم وضرب أنفسهم ووضع معجون الطماطم على وجوههم حتى يوهموا المراقبين بأنه تم الاعتداء عليهم من طرف المناصرين المصريين، وأصر جزء كبير من الإعلام المصري على التمسك بهذه الرواية التعيسة رغم ظهور الحقائق الموثقة بالشهادات والصور. وخاض نجوم هذا الإعلام معركة شرسة ضد الجزائر وشعبها وتاريخها وحتى شهدائها! هذا الإعلام الذي تغوّل بالمال الفاسد هو الذي تحالف مع القضاء الذي عيّن إطاراته الرئيس المخلوع حسني مبارك وبلطجية الجنرال شفيق المدعوم بملايير الإمارات لتنفيذ مطالب الثورة المضادة، وقد أعطى مثالا صارخا عن طبيعة الديمقراطية التي يؤمن بها عندما قام بعض عناصره بطرد مدير محطة قناة “الجزيرة” بمصر من المؤتمر الصحفي الذي عقده الناطقان باسم الجيش والشرطة. وفي مشهد هو أقرب إلى مسرح اللامعقول تداعت الأحزاب والحركات والشخصيات التي كانت تنقم على الرئيس مرسي تهديد الديمقراطية، إلى التظاهر هذه المرة تأييدا للانقلاب العسكري وتعطيل الدستور، أصبح الذين ملأوا ساحات مصر ووسائل إعلامها بالاحتجاج والرفض للإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس المنتخب لتحصين مؤسسات الدولة، إلى مؤيدين للإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس المؤقت عدلي منصور، والذي يحدد صلاحيات مؤسسات الدولة في المرحلة الانتقالية، ويعطي للرئيس المعين صلاحيات التشريع والتنفيذ، والاستحواذ نظريا على السلطات الثلاث في الدولة. ربما يكون الدكتور محمد البرادعي، رئيس حزب الدستور ومنسق جبهة الإنقاذ، هو الذي فهم سر الوصول إلى السلطة في بلد قام على انقلاب عسكري قبل 61 عاما، وهو أنه من الأفضل الوصول إلى مناصب الحكم بقوة الدبابات بدل الاعتماد على صناديق الانتخابات. ولقد ساهم انقلاب الثالث من شهر جويلية في تعميق الشرخ بين مكونات الشعب المصري بدل وضع حد للاستقطاب السياسي وتحقيق المصالحة الوطنية، وقد تؤدي هذه الانتكاسة في المسار الديمقراطي للشعب المصري إلى أن يصبح كل رئيس منتخب يحمل في قابل الأيام لقب “الرئيس المخلوع” بالاحتكام لمنطق الحشود ودعم الجنود!