أكبر معمّرة في العالم ليست ”ميساو أوكاوا”، كما هو وارد في موسوعة ”غينيس” للأرقام القياسية بعمر 115، وإنما هي جزائرية مسلمة تعيش في قرية نائية بالجزائر العميقة، تدعى ”نا فاطمة منصوري”، وتبلغ من العمر 140 سنة، وجميع الشهادات والقرائن ووثائق الحالة المدنية تؤكد صحة ذلك، ما قد يدفع بموسوعة ”غينيس” لتحيين معطياتها حول حقيقة أكبر معمّرة في العالم. اخترنا اليوم الأخير من شهر رمضان للقيام بزيارة إلى بيت ”نا فاطمة”، التي قيل لنا إنها أكبر معمّرة في العالم.. الوجهة كانت قرية الحامة بأعالي أميزور في بجاية، وبعد قطع مسافة تزيد عن 10 كيلومترات وسط سلاسل جبلية بكسوة اخضرار فصل الصيف بلغنا البيت المقصود.. كانت الساعة العاشرة صباحا والحرارة مرتفعة جدا، المسالك الريفية كانت خالية من المارة. وبعد دردشة قصيرة مع بعض أحفادها قال لنا أحدهم: ”ستسي”، بمعنى ”جدتي لا تزال نائمة، لكن بعد لحظات ستكون جاهزة”. انتظرنا الدقائق الكافية لبلوغ موعد لقاء أكبر معمّرة في العالم.. اللحظة كانت تاريخية لما خرج أحد أفراد العائلة ودعانا للدخول إلى صالون بيت تقليدي مزين بأثاث قبائلي، وفي الجهة المقابلة وجدنا ”نا فاطمة” جالسة فوق سرير تقليدي، رحبت بنا وأبدت فرحة كبيرة جدا بقدومنا إليها، ليس لأننا نبحث عنها كأكبر معمّرة، ولكن شوق الزيارة وقدوم الضيوف زاد من فرحتها، وهو ما جعلها تسلم علينا أكثر من مرة. وكعادة كبار السن سألت عن أحوال عائلتنا وأقاربنا، رغم أنها لا تعرف عنا أي شيء.. بالنسبة لها كان ذلك وسيلة لتحطيم جدار الصمت ومباشرة الدردشة معها. ”يقولون إن عمري 120 سنة.. وأنا لا أعرف” أول ما سألنا عنه ”نا فاطمة” هو عمرها، فردّت علينا بكل براءة: ”هم يقولون 120 سنة، وأنا لا أعرف كم عمري بالضبط، عشت طويلا حقا، وأنا لا أحسب الزمن بالسنوات، وإنما بالقرائن والأحداث المفرحة منها والمؤلمة، مثل الزواج الفلاني أو وفاة فلان أو الولادات أو أحداث الحروب والمجاعات وغيرها. وأنا ولدت قبل فرار خالي محمد العربي إلى جزيرة ”كايان” المرمية في البحار البعيدة، ومنذ ذلك الحين لم نسمع عنه أي شيء”. وحسب عدد من كبار السن فإن محمد العربي هو أحد أبطال ثورة شيخ الحداد، الذي يقول البعض إنه قُتل في الصحراء، بينما آخرون يقولون إنه فرّ إلى جزيرة ”كايان” بكاليدونيا الجديدة. وعن زواجها الأول، قالت إنها لا تتذكر شيئا عن ظروف الزواج، لكن صورة الزوج لا تزال عالقة في ذهنها، رغم أنها لم تعش معه طويلا ولم تنجب معه أولادا. بينما زواجها الثاني يعود إلى أيام التجنيد، وحاولت أن تفسر لنا معنى أيام التجنيد بقولها إن ”الباشاغات” والعسكريين الفرنسيين كانوا يقتحمون القرى في أجواء الرعب والرهبة ويبحثون عن الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 إلى 45 سنة لإلحاقهم بالجيش الفرنسي من أجل محاربة كفار أعداء للفرنسيين الكفرة. وتقول إن الكثير منهم فرّ إلى تونس و«سرايا”، في إشارة إلى سوريا، والبعض الآخر لزم الحقول خوفا من العودة إلى القرى، وهي بذلك تتحدث عن فترة صدور قانون التجنيد الإجباري سنة 1912. تقول نا فاطمة إنه خلال تلك الفترة العسيرة عانى الناس ويلات المجاعة والرعب والخوف الدائم، فالكثير من الرجال سرقتهم فرنسا لتخوض بهم الحروب، والبعض الآخر فضّل الفرار وظلّت الحقول خاوية على عروشها، فقلّت مصادر الرزق، والنساء وحدهن وجدن صعوبات كبيرة جدا للتكفل بالحقول والمزارع وتوفير مصادر العيش. وتضيف نا فاطمة قائلة: ”لم يمض زمن طويل على الخوف الأول حتى جاء الخوف الثاني. ونحن النسوة لا نتدخل في شؤون الرجال، هم يتحدثون عن همومهم، ونحن نلتزم الصمت، وتلك التي يأتي منها تعليق يكون مصيرها الطلاق بالثلاث، ولكننا كنا نسمع حين يقولون إن الحرب قادمة والرزق أصبح بين قوسين. القلق كان باديا على وجوههم، وقبل الخلود إلى النوم يكونون قد توصلوا إلى اتفاق مهما كانت طبيعته”. وتقول إن كل الرجال الذين عاشت معهم خلال هذه المراحل لم يعودوا من الأحياء.. تتذكر مجاعة ما بعد الخوف الثاني، وهي بذلك تسمي الحرب العالمية بالخوف، حيث كانوا يقتاتون العيش من الغابات والبراري مثل الحيوانات، ”يأتي لنا الرجال بالبلوط وثمار الشلمون وقشور الطحالب البرية لنواجه بها الجوع”. وعن أولادها تقول نا فاطمة: ”كما سبقت القول خلال زواجي الأول لم أنجب أولادا، المكتوب هو السبب، وخلال زواجي الثاني أنجبت أربعة أولاد منهم ثلاث ذكور وأنثى واحدة، ولم يبق منهم أحد لكن ذريتهم كبيرة جدا”. ومن خلال عملية حسابية مع أحد أحفادها، الذي استعان بورقة وقلم، تبين أن عدد أحفادها يتجاوز 88 حفيدا، منهم 15 حفيدا من أولادها الأصليين. وتأسفت نا فاطمة لكون عدد الحفيدات يتجاوز بكثير عدد الأحفاد، وبعفوية تساءلت: ”لو تندلع الحرب من يقابلها؟”. ولا ندري لماذا كانت نا فاطمة متسرعة ومتلهفة جدا للحديث عن الثورة التحريرية، حيث قالت إن سكان الحامة عانوا كثيرا من بطش وظلم وجور الفرنسيين والخونة المتعاملين معهم.. ”كانوا وحوشا حقيقية والرحمة منعدمة في قلوبهم”. وتتذكر لما أحضروا 15 من المجاهدين ألقي عليهم القبض في كمين نصبه الخونة، حيث ”أعدموا رميا بالرصاص في ساحة المدرسة الوحيدة بالقرية، وبعدها انتقلوا إلى قرية بومراو، لكن لحسن الحظ جميع المجاهدين غادروها، ليصبّوا غضبهم على النساء والعجزة وحتى الأطفال الرضع”، وتتذكر طفلة صغيرة تم رميها مثل القطة من النافذة بسبب الصراخ، وتتذكر عائلة أبيدت عن آخرها بسبب التحاق كل رجالها وشبابها بالثورة. لكن أقسى ما آلمها وتأبى أن تنساه، مهما مرت من السنين، هو يوم وُلد عثمان، كما تقول، وذلك سنة 1957.. يوم دخل العسكريون الفرنسيون إلى القرية وتوجهوا إلى بيتها العائلي وأضرموا النيران فيه، وكان يضم عشرات رؤوس الماعز والعلف وما تم إخفاؤه من الأرزاق. نا فاطمة تتذكر كذلك فترة ”سي سي ألفو”، في إشارة إلى وقف إطلاق النار وبداية الاستقلال، حيث وُلد الكثير من الأحفاد وعاد الأمن والاستقرار، ”لكن الشباب لم يرضوا بهذه النعمة، ربما معهم الحق لا أعرف”، تقول نا فاطمة. من يريد أن يعمّر مثلك ماذا عليه أن يفعل؟ ”لا توجد وصفة سحرية، بل ذلك من شؤون اللّه الحنين الكريم، هو الذي يقدر الأعمار. لكن إذا أردتم أقول لكم إني لست مثلكم، فأنا لا آكل حتى البطنة مثل ما يقول رسول اللّه ”نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع”.. وجدّنا الكبير كان يقول لنا نقسم جوف المعدة إلى ثلاثة أجزاء، ثلث للطعام وثلث للماء وثلث للهواء.. هكذا لن يعرف المرض سبيلا إليك.. أما المشروبات الغازية وما شابهها من تلك التي تعشقونها فلم يحدث أن تجرعتها في حياتي. نأكل مما تنتجه حقولنا ومزارعنا والطعام الذي تصنعه أيدينا”، وتقول مازحة ”كيف لامرأة أن تأكل خبزا صنعته أيدي الرجل وتريد أن تعيش حياة طويلة؟”. في رمضان أعشق ”المقارونة” وأجن عليها رغم سنوات العمر الطويلة، وبشهادة أحفادها، فهي تؤدي فريضة الصيام بشكل طبيعي. ولما سألناها عن السبب وتجاهلها نصائح الأطباء والأئمة الذي يطالبونها بالإفطار، ردّت بقولها ”بربكم قولوا لي لماذا أفطر، فأنا طول العام أصحو على كوب صغير من الحليب، ووجبة الفطور لا تتعدى قطعة خبز صغيرة، أما العطش فهو لا يعرفني، لأني دائما في البيت فلماذا أفطر؟”. وعن رمضان أيام شبابها، فهي تقول إنه كان أحسن بكثير، فهي تتذكر ”البراح” الذي كان يدق أبواب منازلهم، بداية من الساعة الثانية، والذي يتواصل عمله إلى أن يوقفه صوت الأذان لإمام المسجد، حيث تقول: ”وكان لكل قرية مسجدها، ومع بزوغ الفجر، خاصة في أوقات الحر، نتوجه إلى الحقول جماعات مستغلين نسيم الصباح لنقوم بالأعمال إلى جانب الرجال لنفارقهم عند صلاة الظهر، ويستمرون هم إلى صلاة العصر، حيث نعود إلى المنازل لتحضير المائدة، ليس بالشكل الحالي، من حيث عدد أنواع المأكولات والفواكه وأنواع الخبز.. مائدتنا كانت تضم وجبة واحدة وخبزا واحدا هو المطلوع، وعند السحور نتناول ما تبقى من الإفطار، وأحيانا نحضّر الكسكسي بالفول واللبن. وعند الإفطار فإن التضامن القروي يبلغ ذروته، حيث الكل يفطر سواسية ولا يوجد من هو شبعان وجاره جائع. إمام المسجد يوزع الأرباح ويدعو الناس إلى التضامن. وأصارحكم أني حاليا أجنّ على ”المقارونة” وأعشقها كثيرا، بإمكاني أكل قصعة كاملة، ولا تستغربوا أمري ف«المقارونة” لم أعرفها إلا بعد رحيل الفرنسيين”. وفيما كانت تتحدث عن أجواء رمضان، استحضرت ما كادت تنساه، حين قالت إن أفضل وجبة لها أيام الشباب هي ”الطمينة” القبائلية، ”التي تحضّر بدقيق القمح وزيت الزيتون وتأكل بحبات التين المجفف، ولا يشرب بعدها الماء حتى نحافظ على صحية الوجبة، بينما المشروبات المرفقة لا تتعدى عصير الثمار الأصلية. والبعض يضيف إليها حمض الليمون الطبيعي، أما الرجال الأصحاء فهم يجبرون على شرب زيتون الزيتون الذي يقيهم من كل الجراثيم”، وبعض كبار السن يقولون، حسب نا فاطمة، إن ذلك يضمن دوام القدرة على الإنجاب. نا فاطمة.. القابلة المفضلة لنساء القرية تقول نا فاطمة إنها قضت سنوات طويلة من عمرها في ممارسة الطب التقليدي، حيث تعالج الكثير من الأمراض، وامتهنت باحترافية كبيرة حرفة ”قابلة النساء”، وأشارت إلى مجموعة من الشباب والكهول الذين حضروا بالمنزل، وقالت إنهم جميعا وُلدوا بين يديها. وتقول إن النساء يطلبن خدماتها ليس في قرية الحامة حيث تقيم فحسب، بل في القرى المجاورة وحتى البعيدة منها، لأن سمعتها سبقتها إلى كل مكان، وكانت الوحيدة لفترة طويلة من الزمن القادرة على مواجهة حالات الولادة المستعصية. وتقول إنها تحضّر نفسها جيدا من خلال إحضار الأعشاب اللازمة والمضادات الطبيعية، وذكرت أسماء مجموعة من النباتات التي تقاوم النزيف الدموي، أو تلك التي تستعمل كمخدر في حالة الخروج السيئ للجنين من بطن أمه. وتقول إن 90 بالمائة من رجال ونساء القرية كانت هي قابلتهم، وأن عدد النساء اللواتي استفدن من خدماتها يعدين بالمئات، وتقول إنها تعالج أمراض أخرى تخص الرجال والنساء والأطفال، وتقوم بما يسمى محليا ”القطاعة”، وهو ما يشبه اليوم الحجامة. موسوعة ”غينيس” مطالبة بالتفاتة تجاه نا فاطمة منصوري يقول أحفاد المعمرة فاطمة منصوري إن موسوعة ”غينيس” للأرقام القياسية مطالبة بتحيين معطياتها والتوجه بالتفاتة إلى أكبر معمّرة حقيقية في العالم، وتمنوا أن لا تدخل الاعتبارات الدينية والإيديولوجية وغيرها في اختيار أكبر معمّرة في العالم. وحسبهم، فإن جميع الوثائق الثبوتية، من شهادات الميلاد والزواج وغيرها، تؤكد حقيقة عمر ”نا فاطمة” منصوري. وبعد توديعنا لها متمنين لها العمر الطويل، توجهنا إلى مصالح الحالة المدنية بأميزور، حيث تحصلنا على شهادة ميلادها، التي تتضمن الاسم الكامل وتاريخ الازدياد، حيث جاء فيه أن عمرها سنة 1891 كان 18 سنة، وهو ما يصادف تاريخ زواجها الأول، فهل تأتي الاستجابة من موسوعة ”غينيس” لتصنف ”نا فاطمة” المسلمة كأكبر معمّرة في العالم بعمر يتجاوز 140 سنة. تجدر الإشارة إلى أن مصالح النشاط الاجتماعي وجمعية الرحمة أحصت، خلال سنة 2013، أزيد من 110 معمّر تتراوح أعمارهم ما بين 100 إلى 140 سنة.