في الأفراح والأقراح، في ولائم الزواج والختان وفي مناسبات الأعياد، هو الحاضر الدائم، هو سيد الموائد دون منازع.. الطبق الأزلي الذي حقق العالمية بملامحه ومواصفاته وطقوسه المحلية. ووحده يختصر وحدة الجزائريين رغم تنوع ثقافتهم وتعدد تقاليدهم وأنظمتهم الغذائية، ويعكس بساطة مجتمعنا وروح تضامن أفراده، وعبقرية نسائه في إعداد هذا الطبق، الذي يصنع التميز والتفرد للطبخ الجزائري، والمغاربي عموما، هو طبقي وطبقك هو باختصار طبق "الكسكسي". لا يخلو بيت في الجزائر من هذا الطبق، ويمكن الجزم بأنه في كل بيت امرأة تتقن إعداد الكسكسي. وأهمية هذا الطبق ومكانته في قلوب الجزائريين غير قابلة للنقاش، وقد يبالغ البعض في القول: ”البيت الذي لا يعدّ فيه الكسكسي ليس بيتا”، وأيضا ”المرأة التي لا ”تفتل” الكسكسي ليست امرأة”. يعتبره البعض ”ملك المائدة” و”صاحب الجلالة” في الطبخ الجزائري، والطبق المفضل والمحبوب والمرغوب فيه، استفز حتى الشعراء. وهذا شاعر ميلة الشعبي رشيد بومعزة يتغنى بطبق الأجداد فيجيد واصفا بقوله: واش من صفة خليت يا لعوام بمحبة ليك نفسي رحالة طعام يما ما فتلوه لريام وبنات اليوم كل شيء بالالة عمري ما ننسى ديك ليام كيف كانت البشنة عوالة قمح وشعير يمشيو توام من الطرحة للدار يجيبوه قبالة حراير تطحن وتفتل أطعام عشانا مخضر بالفول وقرفالة بربوش لمزيت والمغرف عوام صنعت اليدين ماهي من والة ذاك الطبسي موشم برقام معمر شخشوخ من الخالة كسكس لفراح بالتويزة يتقام مفتول حبة حبة توراث واصالة المسفوف محبوب لصحور الصيام زبيب وزبدة ماهو نخالة يا ما حلا اللمة مع لخوال ولعمام بمغارف العود نتقابل دالة كي نتفكر نقول راني فمنام ولا حقيقة عدات مثل بوقالة إذن، تعددت تسمياته وتنوعت أشكاله ومواده لكن بقي الأصل والذوق والنكهة، فقد تعددت تسمياته بين شرق البلاد وغربها وشمالها وجنوبها، ومنها: الطعام، و”البربوشة”، و”النعمة” و”الكسكسي”، و”سكسو”، والمحور وإن اختلفت التسميات فالجوهر لا يختلف، رغم اختلاف المواد المستعملة في إعداده وطريقة طهيه من منطقة لأخرى، وهو تنوع طبيعي يفسره التنوع الثقافي للجزائر الواسعة. والكسكسي طبق ضارب بجذوره في القدم، فهو أكلة بربرية اشتهرت لدى سكان شمال إفريقيا والجزائر خاصة، ويرتبط الكسكسي بالحبوب المختلفة، في مقدّمتها القمح والشعير، لكن الكسكسي تطور ولم يعد يُكتفى بالقمح والشعير فحسب في إعداده، فظهرت أنواع أخرى تنافس هذه الحبوب، ومنها الذرة والبلوط. تعتبر وجبة الكسكسي غذاء كاملا حسب المختصين في الصحة الغذائية، لجمعه بين مواد مغذية وهي السميد ”المفتول” و”المفوّر” وبين البقول الجافة والحمص ومختلف الخضروات. وقديما كانت النسوة تضيف للحمص أيضا ”القرفالة” والفول. وفي أيامنا هذه تطورت أنواع الديكور، فأصبح يعلو طبق الكسكسي السمك إلى جانب اللحوم الحمراء والبيضاء، ما يبيّن ثقافة السلف في إعداد وجبات متوازنة وذات قيمة غذائية حسب الإمكانات المتاحة لهم. ”محوّر” ميلة لذة فوق العادة لا جمعة بلا كسكسي وكبار السن لا يفارقونه
تشتهر ولاية ميلة بطبق يدعى ”المحوّر”، وهو طبق ينفرد عن غيره من أنواع الكسكسي المعروفة في الجزائر من حيث طريقة إعداده، فهو ناعم وحباته دقيقة، يسقى بمرق أبيض، يزيّن بالبيض المسلوق ولحم الخروف أو الدجاج، أو أيضا بكريات ”الكفتة”، أي اللحم المفروم في شكل كريات، وهو ما جعله طبقا مطلوبا بكثرة، وكثيرا ما حصد جوائز في مختلف المسابقات ذات الصلة بالطهي والطبخ. وتتعدد أنواع الكسكسي وتختلف أشكال تحضيره وطهيه بين هذه المنطقة وتلك من ربوع الجزائر الشاسعة، لكن التقاطع يكمن في التغليب الدائم لطبق الكسكسي، وهو جملة من حبيبات الدقيق المستديرة، يفضّل كثير من الجزائريين تناوله أيام الجمعة، ونادرا ما يخلو غداء عائلة جزائرية بعد صلاة الجمعة من هذا الطبق المتوارث، الذي يُطهى في الغالب بمرق اللحم أو الدجاج مصحوبا بالبطاطا وسائر الخضروات، والأمر يختلف من منطقة إلى أخرى. تقول السيدة ”س.زليخة” من ميلة إن طبق الكسكسي أو ”المحوّر” هو الطبق الأول الذي يطلبه أفراد العائلة، وهو الطبق المفضل الذي يقدّم للضيوف، ويجب أن يكون ”الطعام” متوفرا على مدار السنة. كما يجب أن يكون حاضرا ولو مرة واحدة على الأقل في الأسبوع، وهو الأكثر طلبا خاصة من قِبل الكبار والشيوخ، ولا ينافسه أي طبق آخر مهما كانت قيمته الغذائية. وتضيف الحاجة زليخة أن العائلة لما تجتمع بكل أفرادها تجتمع على طبق الكسكسي أو ”البربوشة”، ويكون موشّحا بقطع اللحم والخضروات والمرق الأحمر. سيد مائدة السحور في شهر الصيام أينما حللت وارتحلت داخل جنبات الجزائر ودويراتها، يحدثك الصائمون عن أفضل طبق لسحورهم، فهو الكسكسي الممزوج بالزبيب في أغلب مناطق الوطن، أو بالحليب واللبن و”الرايب” أيضا. يؤكد ”عمي” المختار أحد الشيوخ الذي لا زال يحافظ على نظامه الغذائي التقليدي، ويفضّل تلك الأطباق القديمة التي تعد بأيادي ”العجوز”: ”لا أتناول في سحوري أكلا آخر، عدا الكسكسي أو المسفوف، خاصة بالحليب أو اللبن. وللكسكسي أشكال جذابة تستهوي الكبار والصغار، وتتنوع الأطباق التي يدخل فيها الكسكسي مادة رئيسية، ومنها الكسكسي الممزوج بالجلبانة، حيث تخلط بالكسكسي حبات الجلبانة لتعطيه ذوقا متميزا، مثله المسفوف، ويخلط الكسكسي بالسكر في بعض المناطق والزبيب وبالعسل الحرة أيضا، ما يجعل له طعما لا يمكن الاستغناء عنه. ويفضّل البعض كسكسي الشعير، فهو من الناحية الصحية أفضل للأمعاء، شأنه في ذلك شأن الكسكسي المصنوع من حبات البلوط، والذي يعرف انتشارا واسعا خاصة بولايتي جيجل وميلة، نظرا لقيمته الغذائية وعدم إضراره بالأمعاء، ويوجد إلى جانب تلك الأنواع والأشكال ”كسكسي” يعد من الذرة، وخصيصا لمرضى الأمعاء الدقيقة الذين يعانون من حساسية من مواد القمح والشعير، ويعرف رواجا كبيرا هو الآخر. ”التويزة” والتضامن في ”فتل” الكسكسي بين النسوة كم كانت هذه الصور تتكرر ببيوت الجزائريين وخاصة بالأرياف، صورة النسوة وهن يجتمعن في بيت واحد وقد أتين من كل بيت من الجيران والأهل والأقارب وروح التضامن تملأ قلوبهن. يجتمعن حول ”قصعات” ملئت بالسميد وحولهن غرابيل مختلفة الأشكال، وكلهن نشاط وحيوية، يرددن أغاني محتشمة ومدائح بأصوات خافتة توحي بحيائهن ورقّة أنفسهن. في جو من المرح والمتعة والمؤانسة يقضين أوقاتا طويلة دون شعور بالملل ولا كلل، لينتهي بهن المقام عند الغروب وقد أعددن أكياسا من الكسكسي والسعادة تغمر الجميع. تلكم صورة من صور ”التويزة”، هذه الظاهرة التضامنية التي تكاد تختفي اليوم في ظل هذا التطور الرهيب والابتعاد تدريجيا عن تلك الحياة البسيطة. وغالبا ما يتم تقديم هذا الطبق اللذيذ في كل الأعمال التضامنية، وفي كل أشكال ”التويزة”، على غرار ”التويزة” في الحصاد أو في تغطية سقوف المنازل (الضالة) أو في جنائز، وفي كل شكل من أشكال التعاون. ولأن هذا الطبق استطاع أن يدخل العالمية ويغزو المطاعم حتى خارج الوطن فقد أنشئت مصنع لإعداده، وحقق رواجا كبيرا، غير أن الكسكسي المفتول بالأيادي الناعمة لا ينافسه أي مصنع مهما تطورت الآلات و تعددت التجهيزات. ”العولة” التي تخزّن لأوقات الشدة والجدب والطوارئ ”العولة” كما تعرف بين العامة من الجزائريين، هي تلك المواد الغذائية التي تخزن بعيدا ولا يتم تناولها أو استهلاكها، ويتم إخفاؤها لوقت الحاجة والشدة والطوارئ. وهذا الإجراء لا يقوم إلا على طبق واحد هو الكسكسي، وذلك كونه يُصنع من السميد ”المفتول” ويستطيع مقاومة مختلف الظروف المناخية، والمقصود هنا الرطوبة، ويسهل ادخاره لمدة طويلة دون أن يتعرض للتلف، حيث كان في بيت كل جزائري طعام للعولة يدّخر للطوارئ. مثلما كان عليه الحال أوقات الثورة التحريرية، حيث كانت النسوة تخبئن أكياسا من الكسكسي والسميد، تلجأن إليها حين تشتد بهم الأيام، وكن أيضا يزودن المجاهدين بهذه الأكلة ذات الأسرار العديدة.