تعدّدت مداخل قراءة التحوّلات الجارية في المنطقة العربية منذ قرابة الأربع سنوات، وتضاربت في نتائجها، ولعل أهمها من يعتبر ما يجري ثورات تحمل معها غدا مشرقا وزاهرا، وعلى النقيض هناك من يجادل بأنها مجرد مؤامرة غربية ضمن سلسلة المؤامرات التي حيكت وتحاك ضد الأمة، وأن حاضرها الدموي يكشف الخراب والدمار الذي ستخلّفه. من بين النظريات المفسرة لما يجري، والتي تتقاطع فيها الرؤيتان، نظرية ”أثر الفراشة” التي يصطلح عليها أيضا بنظرية ”الفوضى” أو ”الشواش”، وخلاصة هذه النظرية تتمثل في الأحداث المتناهية الصغر مثل رفرفة جناح فراشة التي تؤدي بعد مرحلة زمنية طويلة إلى أحداث كبيرة جدا بحجم الإعصار، كما تحيل هذه النظرية أيضا إلى تلك النظم غير المرئية التي تتحكم في ظواهر توصف أحيانا بالصدفة أو الفوضى. وما أقدم عليه ”البوعزيزي” بحرق نفسه كسلوك فردي في مدينة تونسية لا يعلمها غير أهل تونس يمثل وفق النظرية رفرفة جناح الفراشة، التي لم تتوقف تداعياتها عند حدود مدينة سيدي بوزيد أو تونس فحسب، بل انتشرت في كامل الدول العربية التي تأثرت بها بشكل متفاوت، بل وحتى حركات احتجاجية في العالم حاولت محاكاة ما جرى في العالم العربي. وتسببت بعضها في إزاحة أربعة رؤساء من الحكم، وخلخلت أعمدة حكم الرئيس السوري بشار الأسد، وما رافق ذلك من حروب راح ضحيتها عشرات الآلاف، والآثار المترتبة عنها التي لا زالت في حركية مستمرة لا يعرف مداها أو زمانها ولا حتى اتجاهها. وانطلاقا من النظرية نفسها أيضا يذهب التصور المعاكس إلى أن ما يجري حاليا هو التطبيق الحرفي لنظرية الفوضى الخلاقة التي تحدثت عنها كوندوليزا رايس، ويعتبر أن الإدارة الأمريكية باتت تدرك أن الأنظمة العربية الحالية، إضافة إلى ما أفرزته سياساتها من بروز تيار ديني متطرف استهدفها مباشرة، أصبحت أيضا غير قادرة على تأمين مصالحها، وأنه يجب تغييرها وإعادة صياغة الخارطة الجيوسياسية من جديد كحركة استباقية انطلاقا من استشراف مآل الحكومات التي أصبح مصيرها الحتمي نحو الزوال، وانطلاقا من إدراكها لأهمية ودور الأحداث الصغيرة فإنها عملت على توظيفها من خلال تدريب بعض العناصر على تنظيم الاحتجاجات والمظاهرات وإدارتها، ودعم مثل هذه التحركات إعلاميا، والذي سيتحوّل لاحقا إلى مظاهرات كبيرة تؤدي إلى إسقاط الأنظمة التي انتهت مدة صلاحيتها. ودعّم أصحاب هذا الرأي تصوّرهم هذا بالكثير من الأدلة، على غرار علاقة بعض قادة الشباب الثوار بدول أجنبية ودعمهم ماليا، ودور مواقع التواصل الاجتماعي في ما يجري، وتصريحات للزعماء السياسيين الغربيين واحتفائهم بالثورات، بل وحتى تصدر المشهد علانية من قِبل مثقفين محسوبين على اللوبي الصهيوني أمثال برنار هنري ليفي، والتدخل الأجنبي في ليبيا واستدعائه أيضا في سوريا، ناهيك عن مواقف الغرب على مدار الصراع العربي الصهيوني وانحيازه لصالح الصهاينة. من حيث المبدأ لا يمكن نفي وجود بعض الموضوعية في القراءتين ويجب عدم نفيهما بالمطلق. ودون الخوض في تفاصيل الأحداث التي تستند عليها نظرية المؤامرة ومحاولة دحضها، لابد من التسليم والإقرار بأن المؤامرات هي ثابت سياسي لا يمكن إنكاره، فلا ننتظر من العدو غيرها، وإنما النقاش حول حجم تأثيرها فقط. فانطلاقا من النظرية نفسها التي يطلق عليها اصطلاح آخر وهو ”علم اللامتوقع”، وبالتالي فإن مهما حاول الإنسان رسم خطط للتحكم في الأحداث وتوجيهها فإن هناك هامش من الاحتمالات اللامتوقعة التي قد تضرب بكل مشاريعه عرض الحائط، وفي حالة ”الحركات الاحتجاجية العربية” فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية وغيرها من الدول لا يمكنها أن تغامر باصطناع ثورات قد تؤدي إلى ما لا تريده، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما يجري في مصر حاليا، فإذا اعتبرنا أن إسقاط مبارك واستبداله بالإخوان كان مدبرا ثم إسقاطهم بعد ذلك أيضا، فإن المظاهرات المستمرة من قِبل مؤيديهم على مدى الأشهر التالية للانقلاب العسكري لا يمكن بأي حال من الأحوال القول بأنها مدبرة أيضا، وما ستؤول له مصر لاحقا نتيجة لها أيضا غير معروف. والشيء نفسه ينطبق على سوريا فلا جدل أن النظام السوري الذي لم يوجه أي طلقة ضد الكيان الصهيوني، طيلة أربعين سنة، يبقى أفضل خيار لأمن الأخير الذي هو في الوقت نفسه جزء من أمن الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولا يمكن المغامرة بتغييره مع المخاطرة بما يأتي بعده في إطار اللامتوقع، هذا مع التساؤل في الوقت نفسه إذا كان امتداد الحراك إليه لم يكن وارد في حساباتهم من الأساس. وبعيدا عن كل هذا وحتى إذا سلمنا جدلا بأن ما يجري هو مؤامرة من ألفها إلى يائها، فإن هذا يبقى عاملا خارجيا يصعب التحكم فيه، ولكن هل بإمكانه تنفيذها لولا وجود فراغات داخلية تسلل منها؟ دائما وفي إطار النظرية نفسه أي ”أثر الفراشة” لنتساءل لو أن البوعزيزي لم يقدم على ما فعله هل كان سيحصل كل ما يجري الآن؟ ولنطرح سؤالا آخر في السياق نفسه إذا افترضنا أن الشرطية التونسية قامت بعملها والتزمت بالقانون هل كان البوعزيزي سيقدم على حرق نفسه؟ يقودنا هذان السؤالان إلى قضية هامة تتمثل في الكثير من مظاهر الفساد الصغير والكبير، والذي تتوزع مسؤولياته من أعلى هرم السلطة إلى البواب في المؤسسة، فالسلوكيات الظالمة أو التعسفية في الواقع العربي تمارس على مستويات عديدة كبيرة وصغيرة. فإذا كان حجم تأثير رفرفة الفراشة بهذا المستوى فيا ترى ما هو حجم تأثير فيلة الفساد في العالم العربي؟ فروائحه تزكم الأنوف، ولا نتصدر المراتب الأولى إلا في قوائمه، وقوائم قمع الحريات وعدم الاستقرار، بينما تأتي جامعاتنا في ذيل الترتيب عالميا. ثم نعلّق كل إخفاقاتنا ومآسينا بعد ذلك على مشجب المؤامرات الخارجية. ما يمكن أن نخلص إليه في الأخير هو أن النظرية تدلل أيضا على أن ما يجري يقع بدرجة أولى داخل النظام وليس خارجه، والأحداث الصغيرة والبسيطة التي تتكرر يوميا لها مضاعفات كبيرة في المستقبل، وهنا فإن العامل الخارجي عامل ثانوي يستحيل أن يؤثر في النظام إذا ما كانت هناك حصانة ومناعة داخلية قائمة على أسس متينة ممثلة في العدالة والحرية، ومن هذا المنطلق يجب إعلان نهاية نظرية المؤامرة، بل الحديث عنها هو المؤامرة عينها.