لطالما اعتبرت الهند أكبر ديمقراطية في العالم، على الرغم من الانتشار الكبير للفساد السياسي والأمية وتفشي الفقر والتهميش وغيرها من الآفات الاجتماعية والسياسية المفترض تراجع نسبها في الدول الديمقراطية، ومع ذلك تصرّ الهند ومعها العالم على أنها أكبر ديمقراطية بالنظر لقدرتها على الحفاظ على مستويات محترمة من التعايش بين تركيبة اجتماعية وعرقية ودينية قد تكون الأكثر تنوعا واختلافا في العالم. يتحدث مواطنو الهند التي تجاوزت كثافتها السكانية المليار نسمة، ما يجعلها ثاني أكبر دولة بعد الصين، عشرات اللغات المحلية ومثلها من الديانات السماوية والوضعية، ما يزيد من الاختلافات والخلافات بين أبناء الشعب الواحد. ويكفي أن نعلم أن “الأقلية” المسلمة في الهند، والتي تصل نسبتها إلى حدود 14 بالمائة، تعادل حوالي 180 مليون شخص، فيما تشكّل الديانة الهندوسية ديانة غالبية الشعب الهندي، بالإضافة إلى عشرات الديانات التي وإن كانت أقل انتشارا إلا أنها نافذة، على غرار المسيحية والسيخية. من هذا المنطلق، يعتبر العالم أن الهند نجحت في فرض نموذج ديمقراطي خاص بها يسمح بتعايش هذا الخليط المتنوع من البشر، مع الحدّ من الأضرار من خلال نظام فيدرالي يسمح لكل إقليم بالتسيير الذاتي، محترما بذلك خصوصية كل منطقة والقاطنين فيها، في ظل حكومة مركزية تسعى للحفاظ على هذه الواجهة وإن كانت الحقيقة على أرض الواقع تختلف بعض الشيء عن هذه الصورة النمطية المراد ترويجها عن الهند. ولعل الانتخابات الأخيرة التي أفرزت انتصار “حزب الشعب” الهندوسي اليميني المتطرف في عدد من الأقاليم، وحصوله على الأغلبية في البرلمان، ما يسمح له بترؤس الحكومة المركزية، جدد المخاوف من انفجار التوافق الهش، صمام أمان ديمقراطية الهند، باعتبار أن حصول حزب “بهارتيا جاناتا” (حزب الشعب) الهندوسي، بزعامة ناريندرا مودي، معروف بمواقفه المتطرفة والعنصرية ضد المسلمين. أكثر من ذلك لطالما اعتبر رئيس الوزراء الهندي الحديث من دعاة الفتنة والتفرقة، إذ يعتبر أنه يحق للهندوس بصفتهم الغالبية في البلاد أن يتزعموا الهند ويحظوا بامتيازات دون غيرهم من الأقليات الهندية. لم يخف ناريندرا مودي مواقفه، بل جعل منها بوابته لكسب تعاطف ملايين الهندوس بخطابات تلعب على وتر الانتماء والتعبير عن السخط من الإقصاء الذي تتعرض له غالبية الشعب الهندي الهندوسي. وقد أثار خطاب مودي النعرات الطائفية وصلت إلى حدّ الحث على دفع الأقليات المسلمة في المناطق الهندوسية إلى الهجرة الداخلية، هربا من تطرف الهندوس المسكوت عنه من قِبل مودي، مثلما حدث في إقليم “غوجارات” الذي ترأسه مودي لأكثر من عقد من الزمن. والحال أن الولاياتالمتحدةالأمريكية منعت مودي من الدخول لأراضيها بسبب تغاضيه عن ممارسات عنصرية في حق المسلمين وصلت لدرجة التورط في اغتيال أكثر من ألفي مسلم في إقليمه سنة 2002، فيما اضطرت البقية إلى الهجرة إلى أقاليم أقل تطرفا من إقليم “غوجارات” الذي يرأسه ناريندرا مودي. وسعى زعيم حزب الشعب الهندوسي المتطرف لتليين خطابه في محاولة للتأكيد إلى أنه يطمح لاستنساخ التجربة الاقتصادية الناجحة لإقليم “غوجارات” لبقية الأقاليم الهندية، مؤكدا أنه يحترم خصوصيات كل الأقليات. غير أن المخاوف باقية بوصول ناريندرا مودي لرئاسة الحكومة المركزية في الهند، وهو المؤمن بأحقية الهندوس بحكم الهند وإن اضطروا لتحقيق ذلك باستعمال القوة. ولا بأس بالتذكير، في هذا المقام، أن مودي كان عضوا في جماعة مسلحة هندوسية في بدايات نضاله السياسي. فيما يرى المهتمون بالسياسية الهندية أن مودي أدرك أنه مضطر لتحييد مواقفه الطائفية، وهو ما دفعه للتأكيد على أن أولويته استعادة عافية الهند الاقتصادية والابتعاد عن الخطابات العنصرية ومنح المزيد من الصلاحيات للحكومات الفيدرالية فور تسلمه الحكم. ليبقى السؤال؛ هل يقتنع أتباعه بهذا التغيير في المواقف وهم الذين أوصلوه بأصواتهم بعدما أثار العصبية الهندوسية لديهم؟ أرفيند كيجريوال صاحب المكنسة السياسية نجح أرفيند كيجريوال الأربعيني، الموظف السابق في الحكومة، في بعث حركة مدنية شعبية وجعلها حزبا سياسيا فاعلا ينافس الكبار في مدة زمنية قصيرة، ليصبح أنشط حزب في الهند، تمكّن من حشد الشباب والطبقة الوسطى المتعلمة والمهمّشين والمقصيين والفلاحين وكل الساخطين على الأوضاع الاقتصادية في الهند والناقمين من أداء الأحزاب الكبرى. زاد الإعجاب به لدرجة لقّبته الصحافة الغربية ب«روبن هود الهندي”، لأن أول إجراءات اتخذها فور وصوله لرئاسة حكومة العاصمة نيودلهي كانت تقضي بمنع وزراء حكومته، وهو معهم، من استعراض مظاهر البذخ، رافضا استعمال السيارات الفخمة، كما رفض الانتقال للإقامة الفاخرة المخصصة لرئيس الوزراء، مفضلا البقاء في منزله المتواضع. كما بادر بجملة من الإجراءات لصالح الفقراء، من ضمنها محاولته إزالة الغرامات في حق سائقي السيارات المدفوعة “توك توك”، وغيرها من الإجراءات التي لاقت ترحيبا من المواطن الهندي البسيط، غير أن تحالف حزب الشعب الهندوسي وحزب المؤتمر لرفض هذه الإجراءات دفع به إلى الاستقالة، ما زاد من شعبيته لدى رجل الشارع الهندي، متعهدا أمامه أنه سيواصل النضال من أجل كسر احتكار أصحاب النفوذ وإعادة الممارسة السياسية لعامة المواطنين دفاعا عن مصالحهم. المثير أن العديد من رجال الأعمال والنافذين في الهند أدركوا مدى تأثير الحزب الجديد وزعيمه، ما دفعهم لمحاولات ركوب الموجة والالتحاق بنضال الرجل وحزبه، غير أن أرفيند أكد رفضه لأي نوع من المساعدات والتبرعات من كبار رجال الأعمال، مشيرا إلى أن المصدر الوحيد للحزب تبرعات المنتمين له من المواطنين “العاديين”. ولعلها المرة الأولى في الهند الذي ينشر فيها حزب سياسي مصادر تمويله على موقعه في الأنترنت، مجسدا بذلك الشفافية التي يدعو إليها. رافعا شعار المكنسة لنفض أرباب الفساد حزب “المواطن العادي” يحقق المعادلة الصعبة تفاجأ العالم بفوز حزب “الشعب” الهندوسي المتطرف في الانتخابات البرلمانية في الهند، لكن العارفين بواقع الساحة السياسية في الهند يؤكدون أن المفاجأة الحقيقية لم تكن من صنع الحزب القومي الهندوسي وإنما من صنع حزب رأى النور منذ قرابة السنة فقط، ويتعلق الأمر بحزب “آم أدامي بارتي” وترجمته الحرفية حزب “الرجل العادي”، أو ما اتفق على تسميته حزب “المواطن العادي”، الذي تمكن في غضون سنة من الوجود من فرض وجوده ومزاحمة أكبر وأعرق حزبين في الهند، وهما حزب الشعب الهندوسي المعارض سابقا وحزب المؤتمر العريق والمتواجد على الساحة منذ استقلال الهند في أربعنييات القرن الماضي. فقد تمكن حزب “المواطن العادي” من الفوز بأكثر من عشرين مقعدا من ضمن 70 مقعدا في برلمان نيودلهي، ما سمح له بالفوز برئاسة حكومة نيودلهي بدلا من حزب المؤتمر العريق المعتاد على الفوز برئاسة العاصمة نيودلهي. ويؤكد المراقبون أن فوز “المواطن العادي” جاء بمثابة الصفعة التي تسعى فئة واسعة من الشعب الهندي لتوجيهها للطبقة السياسة التقليدية، التي اعتادت ممارسة السياسة باعتبارها مجالا للحفاظ على المصالح للمنتمين لهذه الأحزاب دون غيرهم من الشعب المغلوب على أمره، في إشارة إلى أن أكبر حزبين في الهند ومعهم الأحزاب الإقليمية الصغيرة أصبحت أقرب للمؤسسات العائلية التي يتوارثها الابن عن الأب، لدرجة أن عامة الشعب أصبحت تُطلق على مجلس الشعب “لوك سابها” تسمية “فانش سابها” بمعنى مجلس الورثة. وقد وجد الحزب الفتي في موجة السخط العارم لدى غالبية الشعب الهندي من أداء هذه الأحزاب فرصته لتقديم خطاب مناهض لتزاوج المال بالسياسة الذي تباركه الأحزاب التقليدية في الهند، خاصة لدى الهنود الذين لا يجدون أنفسهم ممثلين في خطاب الحزب الهندوسي المتطرف ولا في خطاب حزب المؤتمر النخبوي البعيد عن انشغالات عامة الشعب. وما زاد من تلاحم الطبقة المتوسطة المتعلمة في العاصمة دلهي والمهاجرين من المدن الداخلية والأرياف إلى العاصمة حول هذا الحزب دعوته الصريحة للتخلص من الممارسات السياسية القديمة، وفسح المجال لجيل جديد من السياسيين الذين ليسوا بالضرورة أبناء سياسيين ولا من عائلات أرباب المال. والواقع أن الحزب الذي يتزعمه حاليا موظف سابق في مصلحة الضرائب، أرفيند كيجريوال البالغ من العمر 44 سنة، نشأ بمبادرة فردية من رجل سبعيني من أتباع النضال السلمي للمهاتما غاندي، أنا هازار، وهو متقاعد من الجيش بعدما عمل سائقا طيلة حياته، انتقل للنضال المدني من أجل رفض رفع الضرائب على صغار التجار والمواطنين، مستنكرا في السياق موجة الانتحار التي طالت الفلاحين بسبب تراكم الديون، ما دفعه إلى إعلان إضراب عن الطعام سنة 2011، على طريقة المهاتما. وقد كانت مبادرته سابقة جعلت ملايين المضطهدين يتخذون منه رمزا لنضالهم ضد الحكومات الإقليمية والمركزية، ليأتي بعد ذلك الدور على موظف الضرائب الذي كان من أوائل المناصرين لهازار ويعلن سلسلة من المظاهرات الرافضة لدفع فواتير الكهرباء أو فوائد الديون البنكية، بل وصل الأمر إلى تنظيم تجمّعات حاملين مكنسات من القشّ أمام السكنات الفاخرة لأرباب المال وكبار الشخصيات السياسية، مستنكرين نمط الحياة الباذخ الذي يعيشون فيه، فيما يموت المواطن العادي الهندي قهرا من الظروف الاقتصادية الصعبة، رافعين شعار “كنس أصحاب الامتياز والحظوة”. وكانت المرحلة الفاصلة حين قرر أرفيند كيجريوال تحويل الحركة المدنية إلى حزب سياسي يكون قادرا على إحداث التغيير، وبالفعل نجح زعيم حزب “المواطن العادي” من الفوز برئاسة العاصمة نيودلهي، باعتباره حزبا إقليميا ينشط في نيودلهي، حيث الطبقة الوسطى والقادمين من كل أرجاء الهند بحثا عن لقمة العيش. واستمرارا لمنطقه المناهض للفساد، قدّم أرفيند استقالته من رئاسة وزراء نيودلهي أسابيع فقط بعد وصوله للمنصب السنة الحالية، بعد تعثر حزبه في سن قانون يكافح الفساد المالي والرشوة في الإدارات العمومية في مجلس شعب نيودلهي، بسبب معارضة نواب حزب المؤتمر اليساري وحزب الشعب الهندوسي، مؤكدا أن حزبه الذي بات القوة السياسية الثالثة في البلاد سيسعى للانتشار في كافة الأقاليم الهندية، حيث الملايين من الساخطين على الممارسة السياسية في البلاد ليراهن بذلك على المستقبل ليصبح القوة الأولى، بعدما اتضح أن فوز حزب الشعب الهندوسي كان تصويتا إقصائيا لحزب المؤتمر العريق، الذي سيطرت عليه عائلة غاندي نيهرو والذي لم ينجح الحفيد راوول غاندي من إنقاذه من فضائح الفساد والمحسوبية. الهند بالأرقام *الكثافة السكانية: وفقا لإحصاء سنة 2011 تجاوز المليار و200 مليون نسمة *815 مليون ناخب *66 بالمائة من الشعب دون 35 سنة *ثالث قوة اقتصادية في القارة الآسيوية أنشر على