إنّ الله تعالى يعلم بعلمه الأزلي القديم أنّ التّكليف أمر تحتاج النّفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له، مهما يكن فيه من حكمة ونفع حتّى تقتنع به وتراض عليه. ومن ثمّ يبدأ التّكليف بذلك النّداء الحبيب إلى المؤمنين المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة ثمّ يقرّر لهم بعد ندائهم ذلك النّداء أنّ الصّوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كلّ دين، وأنّ الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتّقوى والشّفافية والحساسية والخشية من الله سبحانه. أجل، إنّها التّقوى، الغاية الكبيرة من الصّوم.. فهي الّتي تستيقظ في القلوب وهي تؤدّي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثارًا لرضاه. والتقوى هي الّتي تحرس هذه القلوب من إفساد الصّوم بالمعصية، ولو تلك الّتي تهجس في البال. والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التّقوى عند الله تعالى، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلّع إليها أرواحهم، وهذا الصّوم أداة من أدواتها وطريق موصل إليها، ومن ثمّ يرفعها السياق أمام عيونهم هدفًا وضيئًا يتّجهون إليه عن طريق الصّيام {لعلّكُم تتّقون}. والصّوم مدرسة خلقية كبرى يتدرّب فيها المؤمن على خصال كثيرة، فهو جهاد للنّفس ومقاومة للأهواء ونزغات الشّيطان الّتي قد تلوّح له، وهو سرّ الاستعاذة بالله وجوهرها، قال جلّ ذِكرُه: {وَإمَّا يَنْزَغَنَّك مِنَ الشّيطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذ بالله إنّه هو السّميع العليم} فصّلت:36. وفي سورة النّحل يخبرنا جلّ ذِكُره أنّ الشّيطان مهما قوى كيده لا يؤثّر على أهل الله الصّادقين: {فإذَا قَرأتَ الْقُرآنَ فَاسْتَعِذ بالله مِنَ الشَّيطان الرّجيم إنّهُ ليْسَ لهُ سُلطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعلى رَبِّهم يَتوكَّلون، إنَّما سُلطانُه على الَّذِين يَتَوَلَّوْنَهُ والّذِين هُم بِه مُشركون} النّحل:98-100.