بمناسبة أو دونها، تخرج علينا أصوات نشاز تريد أن تفرض وجهة نظرها على الشعب، وكأنها بعثت لتكون وصية عليه في تدبير شؤونه ورسم مصيره، لم أعر لهذا الأمر أي اهتمام في البداية، ليقيني أن الجزائري منشغل عن ترهات هذا الصنف من البشر بأمور الحياة التي ترتبط باهتماماته اليومية. التمادي في هذا الغي والضلال، جعلني أصرخ في قرارة نفسي من هول ما نحن فيه من تخلف وتراجع عن القيم الإنسانية التي تشبّعنا بها من ديننا الحنيف وفهمنا محتواها فهما صحيحا ونحن أطفال صغار، واليوم أرفض الصمت والسكوت عن تجاوزات في حق سيدة مثيلاتها قليلات على مستوى الوطن العربي، عرفتها عن قرب في مرحلة كان فيها الصراع بين المعربين والمفرنسين على أشده، عرفتها وطنية حتى النخاع، جادة، متواضعة ولكنها صارمة، تكره الميوعة والابتذال. صحيح أنها لا تتقن العربية الفصيحة لظروف، غير أنها كطالبة وأستاذة ومسؤولة إدارية، لم تقف أبدا موقفا معاديا للغة العربية. أقول هذا وأنا المعرّب الذي درس معها في نفس الجامعة، وتتبّع جميع خطواتها من خلال علاقتي بأفراد أسرتها، كما لم يصدر عن زوجها الدكتور حسن رمعون أي موقف يحسب عليه في هذا الشأن وكيف يكون منه ذلك ووالده وأقرباؤه من بناة المدرسة الجزائرية منذ الاستقلال؟ وهنا أقف مصدوما أمام الحملة العنصرية التي تقودها عناصر متخلفة متزمتة مسّتها في أصولها وهي واحدة من أحفاد الشيخ الفاضل ابن غبريط أحد مؤسسي مسجد باريس وسليلة ياغموراسن الزياني الأمازيغي، وكأن هذا الصنف من البشر خلق ليكون حجر عثرة في وجه أي تغيير إيجابي يدفع الأمة نحو التقدم والرقي والانفتاح، ويخلصها من الفكر الظلامي المتعصب الذي بدأ يظهر جليا وسط رجال فكر وثقافة كنا نعتقد أنهم النخبة التي نعوّل عليها في قيادة الأمة وتنوير الأجيال، ولكن تبيّن أنهم لم يتخلصوا بعد من عقلية الدشرة والدوار، لأن الثقافة التي تشبعوا بها ونشأوا على توجّهاتها، ثقافة هزيلة، عنصرية، اقصائية، أحادية التفكير، ضبابية التصور، محدودة الأفق، تسببت لنا في اختلالات كثيرة ومتشعبة عرقلت مسيرة النمو وعطّلت الوثبة التي انتظرناها منذ استرجاع السيادة الوطنية، نعم إن السيدة ابن غبريط وزيرة التربية، امرأة من طينة صلبة يصعب على العابثين تكسيرها، وهي من عائلة جزائرية أصيلة أبا عن جد شأنها شأن زوجها. إن المنصب الذي أسند إلى السيدة بن غبريط منصب ملغّم من شتى النواحي، فالتراكمات التي ورثتها عن سابقيها – مع احتراماتي لهم جميعا – متشعبة، وليس لها حلول إلا إذا توفرت الجرأة والصراحة والكفاءة في التسيير. وما يقلقني هو إصرار كل واحد على سل خنجره وعزمه على تصفية حساباته، وحسابات أسرة التعليم في الآونة الأخيرة تختلف عن حساباتنا نحن الذين قدّمنا الكثير والكثير للمدرسة الجزائرية وخرجنا كأساتذة في الثانوية بتقاعد لا يكفي أجره لأسبوع واحد. لقد عشت المهازل تلو المهازل في التعليم بعد أدائي الواجب كاملا غير منقوص، فقد عشت المرحلة التي كنا نوجه فيها الطلبة الفاشلين إلى امتهان مهنة التعليم بتعليمة إجبارية من وزارة التعليم آنذاك بحجة النقص الفادح في المعلمين وأساتذة المتوسط لعزوف الآخرين عن هذه الوظيفة الوضيعة في نظر المجتمع آنذاك، وتخيلوا النتائج الوخيمة التي حصلت فيما بعد. وكنت من الذين فضلوا التريث في تعريب المواد العلمية لعدم تحضير الأساتذة المفرنسين تحضيرا جيدا لهذا التحول المتسرع، وقد ترتب عن ذلك ومازال، مفارقات عجيبة غريبة في الدراسة الجامعية، حيث اصطدم ومازال يصطدم الطلبة بواقع جديد كلية، يخالف ما تعلموه وما استوعبوه، فكانت الأصفار بالعشرات ولم يتخرج البعض إلا بعد قضاء ضعف ما كان يجب قضاؤه من سنوات في الجامعة، وأصبحت الإطارات المتخرجة ضعيفة المستوى، محدودة المدارك، سطحية التفكير، والكثير منهم لا يحسنون حتى تحرير رسالة إدارية أو ملء وثيقة، وإذا وجدنا اليوم وزيرة التربية الحالية تمنح مجموعة من الأصفار لطلبتها أسبوعا قبل تعيينها في المنصب الجديد، فليس ذلك بغريب، اللهم إلا إذا كنا نفكر كأحد مستشاري بومدين والذي سعى إلى الترشح لرئاسة الجزائر مرات عديدة، فقد دعا في برنامجه إلى تعميم منح البكالوريا للممتحنين مهما كانت نتائجهم ومستوياتهم وتلك كارثة ما بعدها كارثة، كما قرأنا غضب وزير العدل وهو يطّلع على المستوى المتدني والمعدّلات المنخفضة لقضاة يتكوّنون وامتهان هاته الوظيفة الجليلة والخطيرة يجب أن يسند لمن نتوسم فيهم شروطا ومواصفات محددة ولا ننكر أن بمحاكمنا قضاة أثبتوا جدارتهم وأهليتهم لهذا المنصب. وأعرّج هنا على تجربة أخرى مررت بها للاستدلال على التقصير واللامبالاة، فعندما استرجعت الجزائر سيادتها على الثانويتين الدوليتين، ديكارت بالعاصمة وباستور بوهران بموجب اتفاق جزائري فرنسي في عهد الشاذلي بن جديد وفرانسوا ميتيران، نقلت إلى ثانوية باستور بتدخل من مدير التربية المرحوم حبيب شينيني بصفتي أستاذا رئيسا للغة العربية، فوجدت نفسي مع بقية الزملاء بين طلبة مزدوجي الجنسية بعضهم لا يحسن الحديث بالدارجة ومنهم من هم من أصول أوروبية نحتاج إلى جهود جبارة لتلقينهم لغة البلد الذي اكتسبوا جنسيته الثانية، فإلحاق هؤلاء بالمنظومة التربوية الوطنية ولو شكلا، لأن المنهاج المقرر تطبيقه هو المنهاج الفرنسي الذي اختير لتنفيذه، غير أن الوزارة آنذاك لم تمدنا بأي موجع يرشدنا نحن أساتذة العربية إلى كيفية التعامل مع هذا الواقع الجديد، وتركتنا كتائهين في الصحراء دون بوصلة نستعين بها للخروج من هذا المأزق. ولكن مادمنا من جيل السيدة ابن غبريط، نشترك في ضرورة رفع التحدي وإثبات القدرة على الاعتماد على الذات، لم نقف موقف المتفرج الذي ينتظر أن تأتيه الحلول من الفوق، بل بادرت كأستاذ رئيسي بوضع برنامج للغة العربية وموادها مع زملائي الأساتذة وقد شمل جميع المراحل بدءا بالسنة السادسة وانتهاء عند السنة النهائية. وطبقنا هذا البرنامج طيلة 7 سنوات في غياب تام للوزارة الوصية، اللهم إلا قيام المرحوم السيد المفتش العام بزيارة تفتيشية للوقوف على قدرة طلبة من أصول أوروبية على تحرير مواضيع إنشائية بعربية فصيحة صحيحة سليمة وهو الذي كان يجهل تماما كيف تسير الأمور عندنا في الثانوية. وأنا لا أسوق هذا من باب التباهي والتفاخر ولا أعاتب أيا كان على عدم تثمين جهودنا، لأن وضع البرنامج متكامل ليس من الهولة بمكان، خاصة إذا كان موجها لفئة تنبذ العربية ومن وسط اجتماعي مفرنس أخوف ما كان يخافه أن ننشر نحن المعربين أفكارا متطرفة تتسبب للعائلة في صراع وتصادم، مع العلم أننا كنا نعيش العشرية السوداء التي قضت على الأخضر واليابس، وإنما سقت هذا لأكشف الاختلالات التي كانت حاصلة في منظومتنا التربوية ولم تتناولها الأقلام بدراسة معمقة وتمحيص دقيق اللهم إلا محاولات من هنا وهناك، وأغلبها ينطلق من رؤيا هدامة لا تريد الخير لهذا الوطن. ومن هنا فلا لوم على السيدة ابن غبريط وهي تحاول رسم خطة إصلاحية جديدة لتدارك مواطن القصور وأنا متيقن أن خبرتها وقوة شخصيتها وصلابة إرادتها وحسن نيتها وشرف مقصدها، كل هذا سيمكنها إن شاء الله من النجاح في مهمتها خدمة لهذا النشر وبنائه بناء عصريا حداثيا في ظل عولمة كاسحة لا يصمد أمامها إلا الأصيل المتسلح بثقافة تقدمية متفتحة، أما إذا تمادى البعض في الدفاع عن مصالحهم المادية البحتة بشن الإضرابات المتتالية وعرقلة السير الحسن للدراسة لأسباب خفية معلومة.