إذا كانت الأحداث السياسية لا توجد معزولة عن بعضها البعض، بل ضمن كتلة كلية تندمج فيها جميعها كنسق من العناصر والعلاقات والصلات، فإن تفسيرها لا يتم إلا على مستوى الكل الذي يشكل جزءا منها (كنسق). وهذا هو ما جعل المدافعين عن فكرة التاريخ كنسق متكامل، في صراع وصدام مع كل نزعة عكسية. أي أن كل نزعة ترى التاريخ علاوة عن أجزاء وعوامل متفرقة لا ربط بينها، أي كعناصر معزولة أو تنظر إلى الكلية التي تشكل كل جزء منها كجمع من الوحدات المتجانسة أو كتجميع لوحدات منغلقة على ذواتها، أما النظرية النسقية فهي تقف، قبل كل شيء، عند العلاقات والصلات التي تجعل العناصر ممتلكة لقيمة أو لمعنى لا ينبعان من ذاتها بل من موقفها، كعناصر مترابطة ومتعلقة بعضها ببعض ضمن كلية ما وبذلك يتمظهر الحدث في مستوى يفلت من التجريبية أو الوضعية. وتصير هكذا علة وجوده في مستوى الكلية التي يندمج فيها وهي لا تخضع لتغيير كيفي وجذري. وليس من قبيل الصدفة أن تكون هذه النظرية التي تحدد التاريخ كنسق متكامل، قد صنعت أول أسلحتها في النظرية الاجتماعية بدراسة المجتمعات القديمة أو الأنسقة الثابتة التي تخلفت عنها وأنها لم تحاول إلا لاحقا الظهور في ميدان التاريخ على الصعيد البرنامجي والملموس والواقعي، خاصة أن مادة التاريخ القاعدية ليست المجتمعات الكاملة والنموذجية والمتجاورة في الزمان والمكان، بل تغيرها وتطورها وتنقلها من الواحد إلى الآخر. ومن الضروري طرح هذه الإشكالية ومتابعة تقلباتها بالنسبة للتاريخ العربي منذ انتشار الإسلام في البقاع المعروفة وانتشار اللغة العربية التي سرعان ما تحولت من لغة دينية (لغة القرآن الكريم) إلى لغة اجتماعية تلعب دور الواصل المتين بين كل هذه القبائل والشعوب والفئات المنتشرة في الكون بأسره، خاصة أن هذا التاريخ طويل جدا ومتشعب لأنه يسلط الأضواء على خلق متنوع إلى أقصى الحدود. ولكن والكل يعلم صعوبة الأمر الباحث عن وفي التاريخ العربي الإسلامي لابد عليه أن يتخلص من النظرية التي تريد تحديد هذا التاريخ كتواريخ محلية مختلفة حسب المكان والزمان، يقود إلى استحالة المعرفة التاريخية. وهو يصل إلى ذلك من خلال إعلانه عجز الفكر عن رسم تخطيط التأويل انطلاقا من وقائع متغايرة ومتناقضة. فماذا يبقى من التاريخ إذن؟ يبقى منه آثار طفيفة مكونة من خليط مكون بدوره من أسطورة وملحمة (أسطورة فتح الأندلس، مثلا، كفتح أنزل على المسلمين كفتح مبين؟!) وأقاويل وخرافات لعلاقات تاريخية صميمة وعميقة، يعود مسارها إلى ما قبل التاريخ الإنساني (أي قبل بزوغ الإسلام) وهذا المنظور هو المحرك الأساسي للمفهوم العلمي للتاريخ. لذا يمكن القول إن كتابة التاريخ ليست بالهينة في العالم العربي الإسلامي، حيث حرف الحلفاء والملوك والمماليك وأصحاب السلطة والسلطان، هذا التاريخ الضخم، كما حاول كل هؤلاء الأشخاص كتابة تاريخ حسب ميولاتهم وإراداتهم. وقد فشلوا كلهم، لأن التاريخ لا يكتب عند الإشارة رهن الأوامر.