جامعيون يمتهنون العُروض الفكاهية والرقص والغناء العاشرة مساء بشارع سان ميشال بباريس.. حيى الجمهور وصفّق لفريق "فيزيون أوبتيك" بعد نهاية آخر استعراض في الليلة، لقد أُعجبوا بعُروض الفكاهة والرقص والغناء وتقدّموا لكي يضعوا بعض النقود في القبعات الموزعة في محيط السّاحة.. ساحة اخترقت فوارق اللغة والجنس والعرق، التقى فيها آسيويون وأمريكان وأوروبيون يبحثون عن لحظات من الحلم. يُحيي العشرات من الشباب القادم خاصة من المغرب العربي وإفريقيا السمراء ليالي باريس عبر تنظيم استعراضات فكاهية ورقص وغناء. أغلبهم شباب غادروا أوطانهم بعد أن أحبطتهم الأوضاع الاجتماعية الصّعبة، وحتى بعد حُصولهم على شهادات جامعية وتخرجهم ب«ليسانس” و«ماستر” لم يعثروا على منصب عمل قار، فقرروا الرحيل والمغامرة بحاضرهم ومستقبلهم، لا يحملون معهم إلا موهبة وحلما بمستقبل أفضل، فقرروا أن يصيروا “ستريت شو”، ما معناه عارض الشوارع. كيف جاءوا؟ وكيف يقضون أوقاتهم؟ وماذا يجنون من الاستعراضات التي يُقدّمونها؟ وهل تمكنوا من تحسين وضعيتهم الاجتماعية؟ هي بعض الأسئلة التي حاولنا أن نجيب عنها ونحن نعيش معهم بعض العروض التي قدّموها. رافقنا في رحلتنا هذه صديقنا يونس، الذي يسكن ويعمل في العاصمة الفرنسية باريس، هو على معرفة بالكثير منهم، وعادة ما يحضر العُروض التي يُقدمونها بعد يوم عمل شاق. كانت البداية من شارع سان ميشال، الذي وصلنا إليه نحن ومرافقنا في حدود الساعة السابعة مساء. ما إن تدخله حتى تدرك أنه من بين أكثر الأماكن حيوية في عاصمة الجن والملائكة، حيث فيه الكثير من الساحات، إضافة إلى المحلات الجميلة والمطاعم التي اختصّ كل واحد منها في تحضير الأطباق التقليدية لكل بلد، كما أن بائعي الكتب القديمة الذين اصطفوا على جانبي نهر السين، جعلوا الساحة مقصدا للكثير من الفرنسيين وحتى السياح. ومن بين ما يميز ليالي هذا الشارع أيضا تلك العروض التي يقدمها فكاهيون ومغنون ورقاصون حوّلوا أركان الحي إلى مسارح يقدمون فيها عُروضهم. قال مرافقنا يونس إن هذه العروض صارت فعلا إحدى مظاهر الشارع الباريسي، وأن الناس صاروا يقدمون من كل مكان لكي يُحضرونها. وأضاف: “أفضل هذه الوجهة على الكثير من الوجهات الأخرى، لأن المكان حيوي وإنساني كذلك، فترى في مساحة صغيرة الفرنسي والآسيوي والأمريكي لا تفرّقهم لا لغة ولا عرق ولا جنس”. ولم يُخف محدثنا أن الأمر متعلق بشكل كبير أيضا بالأزمة الاقتصادية في فرنسا والدول الأوروبية، والتي جعلت الكثير من الأوروبيين غير قادرين على دفع تذكرة “الأوبرا” أو دخول المسارح والسينما وباقي المناطق السياحية، ولهذا فإن بعض اللحظات الممتعة التي يقدمها لهم هؤلاء الشباب مقابل بعض النقود أفضل وأمتع بكثير. وحول اهتمامه بهؤلاء الشباب قال: “إنهم شباب مغاربة مثلي، وأحزن عندما أرى كفاءات جزائرية حائزة على شهادات جامعية غير قادرة على فرض نفسها في بلدها ومضطرة لقطع البحر لكي تبدع في الغناء والرقص”. وعقّب يونس قائلا: “صحيح إنها هوايتهم المفضلة وهم يجنون منها ما يكفيهم قوت يومهم، ولكنني أعتقد أنه إن توفرت لهم الظروف المعيشية الملائمة في بلدهم لما غادروها”. عندما وصلنا كانت المجموعات الاستعراضية تحضّر نفسها وتتمرن قليلا على العرض الذي ستقدمه. مساحة من 10 أمتار تكفي لإقامة عرض يستهوي العشرات من المارة، كان هناك ثلاثة شبان قال صاحبنا يونس إن اثنين منهم جزائريان والآخر فرنسي، كان الثلاثة يتمرنون على بعض الحركات التي سيقومون بها خلال العرض، كما كانوا يسخنون عضلاتهم وكل هذا على الأرض. ولاحظنا أن الثلاثة يرتدون ألبسة خفيفة تمكنهم من الحركة والرقص، وعدا هذا أحضروا معهم أجهزة موسيقى لتنشيط العرض، حيث لابد أن يكون للمغنين والموسيقيين المُعدات اللازمة، أما نحن ومرافقنا يونس فاستغلينا هذه الفرصة للاقتراب منهم. “التهميش هو ما دفعنا إلى الحرڤة”! أوّل من تحدثنا إليه هو خالد بلحطاب، المدعو “الروجي”، من ولاية برج بوعريريج، هو شاب في سن السادسة والعشرين، طويل القامة، يرتدي لباسا رياضيا، استقبلنا بابتسامة جميلة، خاصة عندما قدّمنا يونس له على أننا صُحفيون جزائريون: “مرحبا بالبلاد.. واش راكم؟”. قالها خالد والابتسامة لا تغادر وجهه، قبل أن يضيف: “توحشت أهلي وناسي”، وبعد أن أطلعناه على طبيعة الروبورتاج الذي نحضّره، فتح لنا قلبه وأطلق تنهيدة حسرة ثم صارحنا: “لم أكن أنوي الحرڤة، ولكن الظلم والتهميش هما من دفعاني إلى هذا الخيار”. علمنا من خالد أنه متخرج من جامعة محمد بوضياف بالمسيلة حائز على شهادة ليسانس في العلاقات الدولية وشهادة في تسيير الموارد البشرية في مركز برج بوعريريج، لكن لم يعثر على عمل قار. ذكر أن رقص “الهيب هوب” هو هواية بالنسبة له، حيث إنه يمتهنها منذ سنة 2006، وشارك ضمن تظاهرات نظمها الديوان الوطني للثقافة والإعلام وجمعيات أخرى، قبل أن يلتحق بالمجموعة التي ينتمي إليها حاليا سنة 2010. وأكد خالد أنه كان يتنقل للمُشاركة في التظاهرات في بلدان المغرب العربي وبعض البلدان الأوروبية بميزانيته الخاصّة، ولم يتلق دعما من أحد. وكشف لنا المتحدث أنه أتى بتأشيرة عادية، حيث إنه كان سيُشارك في حفل بفرنسا وآخر في البرتغال، ولكنه فضّل البقاء في باريس لأنه إن عاد “فلن يجد شيئا”، وبدا خالد مُحبطا إذ قال: “كنت أريد أن أُمثّل الثقافة الجزائرية، ولكني من هنا فصاعدا لن أُمثّل إلا نفسي وأصدقائي”.. كان لدى خالد الكثير لكي يقوله، رغم الابتسامة التي لم تفارقه وهو يتحدث إلينا، إلا أننا شعرنا بما يعانيه يوميا وهو “شباب في بلاد غريبة دون وثائق”. كما تقرّبنا من زميل خالد في هذه “المهنة”، وهو زهير لشهب من ولاية البلدية 26 سنة. هذا الأخير يُشارك في المجموعة المختصة في الرقص “أول ستريت كرو” قال إنه لا يملك وثائق، ولم يخف عنا رغبته في العمل في إطار رسمي، لكن ما أسماه “تجاهل السّلطات”، وعلى رأسهم وزارة الثقافة، هو ما جعله ييأس من وضعية الفنانين في الجزائر: “لا أطلب شيئا من الحكومة ووزارة الثقافة الجزائريتين لأنها لن تُعطينا شيئا”، قال إن الوِزارة الوصية تُنظم تظاهرتين فقط في السنة و«عادة ما يفوز بالجائزة منظم التظاهرة أو قريبه”! وفي الساحة نفسها التي صارت المأوى الوحيد لهؤلاء الشباب تحدثنا إلى الشاب صبري القادم من تونس، والذي يترأّس فرقة “آب روند غروند”، حيث قال إن الحكومة التونسية قدّمت بعض التسهيلات للفنانين، إذ قامت بخلق ما يُطلق عليه “بطاقة الكفاءة” بالتعاون مع الحكومة الفرنسية، والتي تمنح للفنانين الذين تعطي لهم الحق في البقاء في فرنسا لمدة 3 سنوات، على أن تجدد بعد ذلك التاريخ. كان صبري بدوره يرتدي ألبسة رياضية وقبعة سوداء، بالكاد نرى عينيه، ولكننا استطعنا أن نلمح بريقهما الدّال على طموح وأمل كبيرين، كان يتحدث بشجاعة وقوة من له ثقة بنفسه. وحول تعرّفه على الجزائريين الذين يمارسون النوع نفسه من الفن، قال إنّ الشارع هو الذي قرّبه منهم وجعله يلتقيهم، مفيدا بأنه أول تونسي استدعى الجزائريين لإقامة تظاهرات في تونس، وذكر أن البلدين بالإضافة إلى المغرب هم وطن واحد، داعيا الحكومة الجزائرية للتفكير في تبني فكرة “بطاقة الكفاءة” لكي يستفيد الشباب الجزائري الراغب في التألق والعمل كل من خلال موهبته. وأكد صبري أن الشباب الذي يأتي إلى هذه الساحة ليس بالضرورة شبابا مغامر بنفسه، بل إن الفن والموهبة التي بداخل كل واحد التي جعلتهم ينطلقون في هذه المغامرة، قال: “إن المارة يستحسنون هذه العُروض إضافة إلى الأشخاص العارفين بالفن”، وذكر لنا حادثة وقعت مع مخرج فرنسي مرّ من أمامهم وأعجبه الاستعراض الذي قدموه فدعاهم للمشاركة في عرض كبير في شهر سبتمبر من سنة 2015 ودون الخضوع إلى فترة تجريبية. كرّ وفرّ يومي مع قُوات الأمن! «الستريت شو” هو شخص خارج عن القانون، حيث إن القانون الفرنسي يمنع هذا النوع من العُروض إلاّ إذا كانت في إطار منظم وتحت إشراف جمعيات وبطلب ترخيص من البلدية، حيث لا يمكن العمل وجني أموال دون دفع الضرائب. الساعة كانت تشير إلى تمام الثامنة مساء، العرض الذي كان يُحضّر له خالد وزهير لم ينطلق! أربعة أفراد من الشرطة قدمت إلى الساحة، وراحت تستجوب خالد ورفاقه “أنتم هنا من جديد؟”. قال شرطي تعرّف على خالد، قبل أن يضيف: “تعلمون جيدا أن ما تفعلونه غير قانوني ويعاقب عليه القانون”. تقدّم نحوه خالد: “أجل، ولكنكم تعرفوننا وتعلمون جيدا أننا لا نقوم إلا بالرقص والغناء، هذه هواية ونحن فنانون”. بدا الشرطي مقتنعا بما قاله خالد، لكنه مع هذا تحدث إلى البقية وطلب منهم الوثائق الخاصة بهم.. أغلبهم لا يملكها. وبعد مرور أكثر من عشر دقائق انسحب أفراد الشرطة وتركوا رفاق خالد بسلام. “إنه مظهر يومي معتاد ليس بالأمر الجديد”، قال لنا خالد، قبل أن يضيف: “انسحبوا لأنهم يعلمون جيدا أننا لسنا سوى فنانين، وأننا نقدم خدمة كبيرة للمواطنين الذين اعتادوا حضور عروضنا. نحن نشارك في السياحة في باريس”. من جهة ثانية، تحدثنا إلى صبري الذي عادة ما يتدخل لدى ظهور أفراد من الأمن، لأنه يملك وثائقه، قال: “إن بعض أفراد الأمن تستفز الواحد منا لكي يتلفظ بكلام غير لائق فيعتقلوه، ولكن علينا أن نكون حذرين ولا ننجرّ وراء محاولاتهم، ونلتزم بالهدوء”، وأضاف أن وجود واحد على الأقل يملك وثائق قانونية يجعل قوات الأمن تتغاضى عن الأمر. كما استحضر صبري ما وقع له مرة مع شرطة الإليزيه، حيث تم اعتقالهم ونقلهم إلى مركز الشرطة، لكن المفتشة أخرجته واعتذرت منهم، معربة عن إعجابها بالعروض التي تقدّم في الشارع. أما الاستحواذ على الساحات العمومية بين مختلف الفرق فإنه يحتاج، حسب خالد، إلى فرض نظام الشارع، كما أن العرض يجب أن لا يتعدى ال30 دقيقة على أقصى تقدير، كما أن النوعية هي عامل هام في هذه العُروض لأن باقي الفرق تمنع المستغلين من احتلال الساحات، حتى لا يفرّ السياح. الشوارع الباريسية تتحوّل إلى مسرح كبير للفُكاهة والرقص والغناء غير بعيد، رحنا نشاهد عرضا كان قد انطلق نظّمته فرقة “إيليزيون أوبتيك”، التي بها جزائريان اثنان واثنان آخران من أصول إفريقيا السمراء. الجزائريان اختصا في الرقص من نوع “الهيب هوب”، أما الشاب الثالث فقد اختص في الفكاهة، حيث إنه يسخر من الواقع اليومي لا يستثني من مواضيعه لا سياسية ولا ثقافة، ويستحضر مواقف واقعية لشخصيات شهيرة. يقول لنا مرافقنا يونس إن المواطن المار عادة ما يطلب كل شيء، فن وفكاهة ورقص وغناء، لهذا فإن أغلب الفرق تعتمد على كل هذه العوامل من أجل إثارة انتباه وفضول المارة، قبل أن تقدّم له عرضا يعجبه، وأضاف: “يعتمد الشباب القادمون من المغرب العربي على الفكاهة، لأنهم يملكون نظرة ساخرة للأوضاع قد لا نعثر عليها لدى أكثر الفكاهيين شهرة، هذا بالإضافة إلى الموهبة التي يملكونها في باقي الفنون المعروفة”. لكن الكثير من الفكاهيين الذين ينشّطون تلك العروض لا يترددون في بث رسائل مشفرة عبر حديثهم، أحيانا تكون عنصرية وأحيانا تكون ضد سياسيين، وهي الطريقة التي صارت معروفة في الفكاهة الفرنسية، رغم أن دور الفكاهي هو السخرية من كل شيء، حتى يلتزم بالحيادية والموضوعية، لكن البعض يتجاوزون هذه الحدود. غير أن الحاضرين عادة ما يتفطنون لهذه الرسائل، مثلما حدث مع أحد الشباب القادم من إفريقيا السمراء، والذي جعل من السخرية من “العرب” قوته اليومي، لكي يثير إعجاب الحاضرين خاصة من الفرنسيين والأوروبيين المتطرفين. وفي ساحة “تروكاديو” حضرنا إلى صراع وقع بين الشاب ذاته وشبان جزائريين وتونسيين لم يتحمّلوا خطابه المعادي لكل ما هو آت من المغرب العربي، حيث تجاوز الفكاهة إلى السب والشتم، ما جعلهم يتهجمون عليه وعلى فرقته، ووقع صدام وصراع بينهما إلى أن جاءت قوات الشرطة واعتقلت الجميع. ولدى حضورنا للعرض الذي قدّمته فرقة “إيليزون أوبتيك” لاحظننا محاولة تفاعل أعضاء الفرقة مع الجمهور، حيث إن الحديث إلى الجمهور الحاضر لا ينقطع، في محاولة لخلق عرض تفاعلي، حتى إنهم أشركوا فتاة صغيرة من الحضور للمشاركة في العرض، كما يطلبون دائما من الحاضرين التصفيق والغناء معهم، لكنهم لا ينسون أيضا أن ينبّهوا الحاضرين إلى ضرورة المساهمة في دفع ثمن العرض عبر وضع النقود في القبعات الموزعة في محيط الساحة، وكل هذا بطريقة فنية جميلة. كما أمكننا الحديث إلى بعض المواطنين الذين حضروا العرض، والذين لاحظنا أنهم من جنسيات مختلفة، أوروبيون وأمريكيون وآسيويون، كلهم عثروا على ضالتهم في العرض، قال لنا شاب باريسي: “أنا أقطن بالقرب من المكان، ولدى عودتي في حُدود الساعة السابعة إلى الثامنة مساء، أصادف هذه الفرق التي تنشط عروضا ممتعة جدا”. ويضيف المتحدث: “إنهم يضفون طابعا جماليا للمدينة ويساهمون في جماليتها”. من جهتها، ذكرت سيدة كانت بصدد المغادرة أن هذه الفرق التي تنشط في الشارع ليست بالضرورة ممتعة، وتذكر أن بعضها تدعو إلى العنصرية، وهو الأمر الذي لا تحبّذه، كما أنها لا تحبّذ فكرة السخرية من كل شيء “لكل شيء حدوده”، لكن مع هذا أبدت المتحدثة إعجابها بالفرقة التي نشطت الليلة.
600 أورو في ثلاثة عُروض تُعادل أجرة “شهّار” رغم القيمة الفنية لهذه العروض إلا أن هدفها الأول تجاري، حيث إن الشباب العارضين جعلوا منها عملهم اليومي. يقول خالد إن ما يجنونه من هذه العروض يمكن أن يصل من 180 أورو إلى 200 أورو في اليوم خلال ثلاثة أو أربعة عُروض مُتتالية. لكن هذا، يضيف خالد، خلال الفترة الصيفية في “افينيون” و«مونبولييه” و«الشون ايليزيه” و«التوريفال” و«التروكاديرو” و«جورج بونبيدو”، وغيرها من المناطق التي يرتادها السياح كثيرا، يقول خالد: “أنا لا أفعل في يومي سوى الرقص. ما أجنيه يكفيني قوت يومي”. من جهته، ذكر أحد أفراد فرقة “اولد ستريت” أنه يفضّل هذه “المهنة” على العمل في الجزائر بأجر متواضع، يقول: “كل يوم وباركاتو، ولكنني أحسن من شهّار في الجزائر”. وأضاف مبديا امتعاضه من تسيير وزارة الثقافة الجزائرية للتظاهرات: “لن أبقى أنتظر كركالا أو ديوان الثقافة والإعلام لكي أشتغل”، وقال إنه يتقاضى في نهاية الأسبوع 190 أورو، أي 3 ملايين سنتيم جزائري، في ثلاثة أيام فقط. أما عضو فرقة “إيليزيون أوبتيك” بدر الدين فإنه لا يحلم في العثور على عمل دائم حتى في باريس، لأن الرّاتب العادي لن يتعدى 3 آلاف أورو، تنفق في الكراء والضرائب. وعن إنفاق المارة في مثل هذه العروض، قال المُتحدث إن الوضعية تغيّرت بعد الأزمة الاقتصادية، حيث كان الناس يضعون 10 أورو و20 أورو وحتى 50 أورو في هذه العروض، لكن الوضع يتغيّر، يقول بدر الدين، حيث إن الأوروبي صار أكثر حذرا، كما أشار إلى أن الفنان يجب أن يثبت نفسه وينال إعجاب المارة. عُروض “خيالية” فوق مسرح “إسمنتي” قدّمت فرقة “إيليزيون أوبتيك” عرضا جميلا صفق له الجمهور كثيرا وتفاعلوا معه. لقد كان رفقاء بدر الدين يقومون بحركات خطيرة، حيث انطلق العرض بدخول بدر الدين وهو يرتدي قبعة حديدية ويمشي على رأسه.. أي حركة خاطئة يمكن أن تكون قاتلة، كما أن الحركات الأُخرى التي قدّمها أعضاء الفرقة لم تكن تخلو من مغامرات. ولدى حديثنا إلى بدر الدين، وهو شاب في سن التاسعة والعشرين من ولاية قسنطينة، ينشط في رقص الشوارع منذ 20 سنة، وُلد وتربى في فرنسا قال: “الحركات الخطيرة تدرّبنا عليها في الشارع وفوق الصخر”، وذكر أنه اعتاد على هذه الحركات، وأن ما يدعوه إلى تقديم الأفضل هو جمهوره المكون من رجال ونساء وأطفال وشيوخ ومن أعمار وجنسيات مختلفة. وقال إنه يتدرب في الشارع ويطور حركاته يوميا وعبر استدراك الأخطاء التي يرتكبها في كل عرض جديد: “عندما ترقص في الشارع لابدّ أن يكون جسدك حجرا مثل الأرض، هذا بسيكولوجي أشتغل في الصيف وتحت المطر ولدى تساقط الثلوج لا يهمّني، ما دمت مُحبا لما أعمل فلا بأس”. أما الجزائري الثاني في الفرقة يوسف، وهو شاب من حي الصومام بباب الزوار، فقال إنه يمارس رقص الشوارع منذ ثمانية سنوات رغم أنه لم يتجاوز 23 سنة، حيث إنه لا يزال طالبا في الجامعة سنة خامسة ماستر في المقاولة، يقول إن الرقص في الشارع صعب، ولكن من يحب هذا العمل يمكن أن يتجاوز كل هذه المصاعب. فيما قال صبري من فرقة “آب روند غروند” إن الشباب الناشط في الشارع عادة ما يتعرّض لإصابات بليغة في جسده، وبما أنه لا يملك حماية اجتماعية فإنه مجبر على أن يزور الطبيب الخاص، وهو الأمر الذي يكلفه كثيرا. وأضاف أن الكثير من الشباب تعرّضوا إلى إصابات بليغة لم يشفوا منها إلى اليوم. غادر الجمهور الذي حضر عرض ساحة “سان ميشال” بعد أن وضع كل واحد بعض النقود في القبعات.. انتهى يوم شاق من العمل ببعض اللحظات من الفرجة والمتعة، إنه نهار باريسي آخر بكل تناقضاته، شقاء وراحة ثم حزب وفرح ويأس وأمل.