يمثل أتباع الداعية والشخصية الإسلامية التركي الشيخ عيد النورسي [1877-1960]، رحمه الله تعالى، صاحب رسائل النور ذائعة الصيت، نموذجا رائعا يُحتذى به في العناية بفكر وتراث الشيخ رحمه الله تعالى، من خلال كثافة الأنشطة التي يقومون بها، وابتكار الأساليب للتسويق لفكره وتراثه، كعقد مؤتمرات ودورات تدريبية وتعليمية تكوينية مدارها ومحورها رسائل النور، وهي بالطبع تتوجه إلى العنصر الروحي في الإنسان وتأثيره في جوانب التفكير والسلوك والعمل الإنساني. وليس هناك من مسلم مخلص يجادل في الأهمية المركزية لهذا الجانب وتثمين الجهد المخطط والعلمي المدروس للنهوض به، واتخاذه مرتكزا أساسا لتطوير وإصلاح وبناء الفرد والمجتمع المسلمين. وبالموازاة، يمثل الجانب الفكري الحضاري التطويري الذي خطه مفكرنا الكبير مالك بن نبي [1905- 1973] أهمية قصوى ومصيرية لمستقبل الأمة الإسلامية؛ فغني عن التذكير أنه نذر حياته وإبداعه الفريد في سبيل تحقيق هذا المبتغى الذي يمثل الشق الثاني الأبرز للشق الذي تولاه فكر وتراث الشيخ النورسي ومن بذر بذور الخير مثله في التربة نفسها. والملاحظة الموضوعية لواقع الأمة العربية والإسلامية تفيدنا بأن التحدي الذي لم تنجح فيه، بل لنقل بدقة وصدق لم تحاول المحاولة الجادة العازمة إلا استثناء يؤكد ولا ينفى الملاحظة لخوض معترك الخروج من التخلف والدخول إلى الحضارة، وهذا السبب الأساس والجوهري لمآسيها التي تتراكم يوما بعد يوم، فتضيف لأسباب التخلف جديدا وتضيع من إمكان الحضارة كثيرا. وليس من العصبية في شيء القول بأن المشروع الفكري الذي صاغته عبقرية مالك بن نبي يعد أهم وأنضج مشروع قدمه الفكر العربي والإسلامي المعاصر للمسألة الحضارية في مختلف جوانبها؛ بدءا من تحليل عوامل وأسباب ومظاهر تخلفها، إلى التحديد الدقيق العلمي المبدع لإنجاز كل مراحل وأدوات. وأسباب داخلية في نفسية وضمير وتفكير وأساليب حياة المجتمع الإسلامي [كتبه، شروط النهضة، ومشكلة الثقافة، ووجهة العالم الإسلامي الجزء الأول نموذجا دقيقا ونوعيا لهذا المستوى والجانب]. وخارجية؛ من قابلية للاستعمار وهو أحد المفاهيم المركزية في أكثر كتبه، آخرها الرصد الاستثنائي المبدع في كتابه وجهة العالم الإسلامي الجزء الثاني \ المسألة اليهودية، الذي بقي مخطوطا لم ينشر بعد كتابته إلا بنحو 61 سنة، وأساليبه فائقة الخبث والدقة، في إدارة الصراع الفكري في البلاد المستعمرة بدلالة أوسع من الدلالة السطحية للاستعمار ، ومراصد الرصد الفكري [كما تولى تحليله وبيانه في كتابه: الصراع الفكري في البلاد المستعمرة]، وكذا العوامل المصاحبة التي تساعد العالم الإسلامي في مشروع الدخول في مرحلة الحضارة، على المستويات الجيوسياسية، والأقطاب الاقتصادية والفكرية والسياسية للدخول في الحضارة. ويمثل كتاب “نحو كومونلث إسلامي” وكتاب “الفكرة الإفريقية الآسيوية” أبرز نموذجين لهذا المستوى من التحليل: الأول يستغرقه موضوع النموذج المُتاح للعالم الإسلامي للعودة إلى مرحلة الدخول إلى الحضارة، في صورة تكتل سياسي واقتصادي يتلاءم مع الأعراف التنظيمية للكتل الحضارية الكبرى التي تشكلت في القرن العشرين، وبدا أنها من خصوصياته التكتلية. أما الكتاب الثاني، فحلل فيه النزوع الإفريقي الآسيوي من خلال كتلة عدم الانحياز ومؤتمرها الأشهر في باندونغ، نحو الدخول إلى العالم المعاصر بتكتل جيوسياسي مباين للاستقطاب الحاد بين المعسكرين آنذاك. ويمثل الإسلام والمسلمون الرصيد الكبير الثاني في هذا التكتل على مستوى القارتين. وقد كان الرجل يستشعر الأهمية الهائلة النوعية لهذا التكتل، إذا دخل العالم من بوابة الحضارة محملا بكنوزه الكبيرة من الأرصدة الروحية والثقافية والتراثية، وأثر كل هذا على مستقبل مشهد الحضارة الإنسانية، والمساهمة الفاعلة في توجيه اختياراتها وتحديد قيمها. وقد اتسم مالك بن نبي بحاسبة عجيبة تفوق ما اعتاده الناس من استشعار للمخاطر، وإدراك لأساليبها، وأعني بالتحديد المخاطر التي كانت تمثلها إدارة الصراع الفكري في العالم المستعمر كما نوهنا بالدلالة الواسعة للاستعمار تشمل وتتجاوز الدلالة التقليدية فقد أوتي بصيرة غريبة حملت بعضهم على وصف الرجل بكونه مصابا بحالة “وسواس” مبالغ فيها. لكن الذي يعود إلى التفرس والنظر العميق إلى تلك الاستشعارات والمظاهر والنماذج، وأساليب اختلاقها والتفنن في إدارتها، ثم يعرض التطورات الوجودية المأساوية بالغة الخطورة التي تتسارع إلى واقع الأمة اليوم بشكل غاية في الغرابة، يدرك قيمة تلك الحاسة الاستشعارية العجيبة التي أوتيها مالك بن نبي، نحو المعامل الاستعماري في توجيه، وإيقاع، واختلاق الأحداث بصور مذهلة. ولسنا مبالغين في القول إن فكر وتراث مالك بن نبي، مازال يرزح تحت تأثير ظاهر وخفي، لأساليب الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، فلم يتح فكره للأمة للتعرف عليه بالصورة المناسبة، فتجد فيه المنهج الملائم للأمة كي تدخل العصر من بوابته الطبيعية؛ بوابة الحضارة؛ حين ترتفع بمشكلاتها إلى مستوى الحضارة كما قال في أواخر الأربعينيات في كتابه “شروط النهضة”، وتواجه تلك المشكلات وتحلها، بامتلاك الرؤية الحضارية: فكرا وروحا، ومرجعية، وثقافة، ووسائل، ومنهجا. إني لأزعم صادقا، مدركا لأهمية وقيمة ما أقول: إن مصير الأمة الإسلامية في هذه المرحلة الوجودية البالغة الخطورة يحدده إلى حد بعيد مدى وعيها ونهوضها بعمل نوعي جبار إزاء تراث فكر مالك بن نبي، لذا فإن الفكرة الجوهرية لهذا المقال تتمثل في الضرورة الواجبة بأن تنهض هيئتان على مستوى العالم الإسلامي بحمل فكر مالك بن نبي رحمه الله تعالى. الهيئة الأولى: فكرية علمية، يمثلها المفكرون والباحثون والعلماء الذي استقطبهم فكر مالك رحمه الله تعالى، وخبروه درسا، وبحثا، واستكناه قدرات استثنائية، لرسم سبيل خلاص العالم الإسلامي من وهداته المزرية، وفق معادلة الذاتية والعصرنة. وهؤلاء ولله الحمد صاروا من الكثرة والوفرة، والأهلية لحمل المشروع ما يمثل الجانب الأهم والأساس لحمل المشروع. أما الهيئة الثانية؛ فيمثلها أهل البر والنفقات ممن يعنيهم مستقبل الأمة الحضاري، فيتبنوا حمل هذا المشروع في جوانبه المادية، ووسائل التنفيذ. لكن تنفيذ ماذا؟ وهنا ستبدو فائدة استهلال المقال بالنموذج النورسي حملا وتسويقا؛ أقصد أن الهيئة الثانية، توفر للهيئة الفكرية والعلمية كل الأسباب الملازمة لتسويق مشروع مالك بن نبي الفكري، في العالم الإسلامي، وفق الخطة التي ترسمها لعملية التسويق؛ تبسيطا للمفاهيم، وربطها بحال وواقع الأمة، والصور والنماذج المقابلة لدى الأمم الأخرى التي دخلت الحضارة وصنعتها، وكذا تقريب الأساليب، وكيفيات استعمال الوسائل والأسباب، وفق الرؤية المنهجية الحضارية المكنونة في فكر مالك بن نبي. وهنا يُستفاد من الطريقة المبدعة التي يسوق بها إخواننا النورسيون تراث ودعوة وفكر الشيخ النورسي؛ إذ يطوفون بفكره بين القارات والبلدان، يعقدون مؤتمرات، ودورات تعليمية، وينشئون المؤسسات التعليمية الحاملة لفكره ومنهجه. أعتقد لو يُتاح لفكر مالك بن نبي التبني من جهات مخلصة للأمة، مستفيدة مما لحق بها، وما يحدق بها من مخاطر، مقدرة للوقت والجهد الغاليين الضائعين، في متاهات كثيرة لم تسفر عن شيء ذي بال للأمة في أحسن الأحوال، لو يكتب لهذا المشروع أن يرى النور، ويُتجه به للتنفيذ المدروس، فبفضل الله تعالى ورحمته بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فستجد فيه الموجه الأمين، نحو الخروج من النفق المظلم الخطير الذي تُرد إليه كلما تلمست سبيل الخروج منه.