قسّم الكاتب نور الدين بوكروح في الحلقة الثالثة من مقالاته والتي عنوانها “إعادة القرآن إلى موضعه” آيات القرآن إلى “آيات قاسية” و«آيات ناعمة” وتساءل لماذا ظهرت في عصرنا “الآيات القاسية” وليس “الآيات الناعمة”؟ ويعلل ذلك بكون المسلمين هم في حالة حرب منذ قرن، أو بالأحرى في حالة حروب متنوعة داخلية وخارجية، ويعتبر بوكروح أن “الآيات القاسية” هي التي نزلت في الفترة المدنية وفيها ذكر للقتال والجهاد وأحكام الحدود والجزية.. إلى غير ذلك، وهذه “الآيات القاسية” – كما يقول- هي قليلة بالمقارنة مع “الآيات الناعمة” التي نزلت في الفترة المكية ضمن سور عددها 86 سورة تحتوي على 4613 آية تكتسي أبعادا كونية وعالمية وروحية وأخلاقية وفلسفية وجمالية. بعد 50 سنة من مغادرة فرحات عباس السلطة أو إخراجه من الساحة السياسية (1963) و28 سنة من وفاته 1985، يحق لنا اليوم أن نطرح أسئلة عديدة حول الأفكار التي طرحها والمواقف التي اتخذها منذ سنة 1962، خاصة حول كيفية تنظيم الحكم في الجزائر والابتعاد عن الحكم الفردي المطلق. وتعود أهمية هذه الأسئلة اليوم بحدة بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال، حيث مازلنا ندور تقريبا في حلقة مفرغة، ولم نتمكن من تأسيس نظام أقرب إلى الديمقراطية -حتى لا نقول ديمقراطي-، رغم ما يقال عن التعددية الحزبية التي ظهرت بعد حوادث أكتوبر 1988، والتي على ضآلتها نلاحظ أنها في تراجع مستمر. والحقيقة أن نظرة فرحات عباس وتحليلاته للأحداث والمواقف التي اتخذها منذ الاستقلال، قد أثبتت بعد نظره ومعرفته للمجتمع الجزائري، ذلك أن اقتراحاته ومواقفه هو وشخصيات وطنية أخرى كثيرة، كان بإمكانها أن تجنب الجزائر الكثير من المشاكل التي عرفتها في مختلف الميادين، السياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. فهو قد حذر مثلا منذ بداية 1985، شهورا قبل وفاته، من آفة -الإرهاب السياسي- فهو يقول: “ها هو الإرهاب السياسي قد ظهر حتى على أبواب مدينة الجزائر والذي لا يتردد في قتل الأبرياء ويدخل بلدنا في طريق شبيه بما يحدث في لبنان”، وقد استنتج ذلك بعد الأحداث التي وقعت في منطقة الأربعاء، وقد حذر منذ ذلك الوقت من السير نحو “حرب أهلية”. لم يصل فرحات عباس إلى هذه الفرضية التي تأكدت بعد سنوات من ذلك، من مجرد تخمينات أو شطحات رجل سياسة يريد تحقيق أغراض من وراء ذلك، بل جاءت من قبل رجل جرب الحياة السياسية لمدة تفوق 60 سنة، 40 سنة منها تحت النظام الاستعماري و20 سنة في ظل الدولة المستقلة، ولكنه قضى معظم هذه السنوات الأخيرة في المنفى أو الإقامة الجبرية. توفي فرحات عباس في 24 ديسمبر 1985 بعد نشاط سياسي مكثف ونضال طويل، وبعد أن ترك العديد من الكتابات أغلبها في شكل مذكرات كلها تطالب بالاستفادة من التجارب السابقة وتطالب بضرورة حرية الفرد والمجتمع وتحذر من التراجع والوقوع تحت نظام استبدادي. توفي عباس في صمت كبير وتجاهل كلي من طرف وسائل الإعلام الوطنية، وحتى وسائل إعلام المعارضة آنذاك التي كان بإمكانها استغلال تلك الفرصة لتبرز معارضة الرجل لنظام الحكم آنذاك لم تفعل ذلك. فمجلة البديل التي كانت تصدرها الحركة من أجل الديمقراطية في الجزائر، لم تكتب إلا بعض السطور عن الرجل صاحب المسيرة الغنية بالأحداث وأول من جمع الحركة الوطنية حول برنامج واحد وحركة واحدة وهي أحباب البيان والحرية، وأول رئيس للحكومة الجزائرية المؤقتة (سبتمبر 1958) وأول رئيس للجمعية الوطنية في عهد الاستقلال. ويعتبر فرحات عباس من الشخصيات النادرة والمتميزة في التاريخ الوطني المعاصر وتطرح حوله تساؤلات عديدة، فهو على الرغم من انتمائه إلى أسرة ميسورة تربطها علاقات حسنة بالإدارة الاستعمارية في الجزائر التي كان بإمكانها أن توفر له الوظيفة المحترمة، إلا أن الرجل اختار بدلا من ذلك الطريق الصعب، وهو الاعتماد على نفسه ومعارضة سياسة هذه الإدارة، وهو كذلك رغم تكوينه الفرنسي وتشبعه باللغة والثقافة الفرنسية وعدم إتقانه اللغة العربية ونقص ثقافته العربية الإسلامية، كما يعترف هو شخصيا بذلك في كتاباته، إلا أنه على عكس العديد من أقرانه الذين اختاروا طريق التجنس، قد رفض سياسة التجنيس وفضل المحافظة على جنسيته وشخصيته العربية الإسلامية، وهو فوق كل هذا قد دافع دفاعا مستميتا عن المبادئ الإسلامية، في وقت لم يكن إلا القليل من المدافعين عن هذه المبادئ خلال العشرينيات من القرن العشرين. فالمطلع على كتاباته التي تعود إلى تلك الفترة والتي جمعها بعد ذلك في كتاب الشاب الجزائري (1931)، يكتشف رجلا فخورا بشخصيته وبأصوله ومدافعا عن دينه ضد هجمات غلاة المعمرين ومفكريهم. ومع أن نشاط فرحات عباس السياسي والنضالي لم يبدأ فقط في الثلاثينيات ولم يتوقف عند هذه الفترة، إلا أن الخطاب الرسمي بعد الاستقلال قد استغل بعض تصريحاته ومواقفه الاندماجية للضغط عليه ثم لإبعاده نهائيا عن الساحة السياسية، كما أبعد الكثير من المعارضين الآخرين بشتى الوسائل الترغيبية منها والترهيبية، فهو قد بدأ كمراقب للحياة السياسية داخل مستعمرة الجزائر منذ بداية العشرينيات، ثم انغمس في الميدان السياسي بشكل واضح خلال الثلاثينيات، وكانت له آنذاك قناعاته الخاصة، لكنه من خلال خبرته الطويلة وتجربته للسياسة الفرنسية المتبعة في الجزائر بمختلف تياراتها، توصل إلى قناعات أخرى بعد ذلك، وهي التأكيد على الشخصية الوطنية الجزائرية والمطالبة بتحقيقها خارج الإطار الفرنسي، فهو لم يتردد خلال الحرب العالمية الثانية في قطع صلته نهائيا بسياسة الإدماج وإدانة النظام الاستعماري والمطالبة بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم، وذلك ما تضمنه بيان الشعب الجزائري الصادر في 10 فيفري 1943 وأكدته حركة أحباب البيان والحرية في 14 مارس 1944، حتى وإن أجهضت هذه التجربة وتم قبرها بعد مجازر 8 ماي 1945. ودون شك أن هذه التجربة كانت مريرة بالنسبة لفرحات عباس وقادة الحركة الوطنية، فبعد الأمل في التحرر الذي صاحب سنوات الحرب، جاءت هذه الحوادث لتعيد نضال الجزائريين إلى نقطة الصفر، لكنها بينت في المقابل شراسة الاستعمار وتشبثه بمستعمراته، خاصة الجزائر منها، مهما كلفه ذلك. ورغم أن النشاط السياسي الذي عرفته الحركة الوطنية خلال الفترة 1946-1954 لم يؤد إلى تحرر الجزائريين من الهيمنة الاستعمارية، إلا أن هذا النشاط قد عرى دعاة النضال السياسي وخيب أملهم في الوصول إلى حلول عن طريق القانون، وهو ما فتح المجال أمام دعاة العمل العسكري، وجاء بذلك الكفاح المسلح ليفتح آفاقا جديدة للتحرر والانعتاق بعد فشل النضال السياسي في تحقيق ذلك. ومنذ انضمامه إلى جبهة التحرير الوطني، تولى فرحات عباس العديد من المسؤوليات، كان أهمها تعيينه رئيسا لأول حكومة جزائرية مؤقتة (سبتمبر 1958-أوت 1961). وبعد الاستقلال تولى رئاسة الجمعية الوطنية التأسيسية (سبتمبر 1962)، لكنه لم يبق طويلا في هذا المنصب، ذلك أن قناعاته الليبرالية والديمقراطية سرعان ما اصطدمت بالاختيارات الاشتراكية وسياسة الحزب الواحد التي انتهجت مباشرة بعد الاستقلال في الجزائر، ولذلك قدم استقالته (جوان 1963). ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد، بل وشعورا منه بالمسؤولية، قام بتوزيع منشور بالجمعية الوطنية في 12 أوت 1963، بمناسبة النقاش حول أول مشروع للدستور. فذكر “أنه منذ الاستقلال لم يستشر الشعب ولو مرة واحدة، وأنه يجب إشراكه في الحياة العامة.. وأن هذا الشعب قد تمكن من الصمود لمدة سبع سنوات ضد أحد أكبر جيوش العالم، وأنه من خلال بطولاته قد اكتسب الحق في اختيار ممثليه وحكومته. وعلينا أن نثق به”. وبعد يوم واحد من ذلك، بعث برسالة إلى النواب أعضاء الجمعية الوطنية التأسيسية يعلن لهم فيها عن تسليمه لهم استقالته من رئاسة الجمعية، وكأنه أراد بذلك أن يعبّر لهم فيها عن أن منصبه كرئيس لهذه المؤسسة، نابع من إرادتهم وليس نابعا من إرادة السلطة الحاكمة آنذاك. ولم يشفع لفرحات عباس نضاله الطويل ولا المناصب العليا التي تولاها منذ بداية الثورة، ولا حتى انضمامه إلى جماعة بن بلة المناهضة للحكومة المؤقتة، حيث تم توقيفه بعد سنة من ذلك (جويلية 1964) ووضع تحت الإقامة الجبرية بأدرار، ولم يطلق سراحه إلا في جوان 1965، أياما فقط قبل الانقلاب على بن بلة. ومنذ ذلك الوقت، وحتى وإن لم يشكل معارضة حقيقية لنظام الحكم، إلا أنه كان يعبّر من حين لآخر عن مواقفه من التطورات السياسية الحاصلة في الجزائر. فقد استغل مع الشيخ خير الدين، بن يوسف بن خدة ولحول حسين، فرصة مناقشة الميثاق الوطني سنة 1976، ليوجهوا معا نداء للشعب الجزائري يحذرونه فيه من التوجه الجديد ويعلنون عن رفضهم لطغيان السلطة الشخصية، وهو الأمر الذي دفع بنظام الحكم آنذاك إلى وضعه تحت الإقامة الجبرية. واليوم يبدو أننا لم نستفد بتاتا من أفكار وتحذيرات فرحات عباس، فقد حذر منذ بداية الثمانينيات من السقوط في أزمة العنف، ومع ذلك لم نستوعب الدرس أو لم نول أهمية لكتابات كهذه فسقطنا في هذه المطبة. كما حذر من قبلها من السياسات المتبعة والتي اعتمدت على الصناعة الثقيلة على حساب الفلاحة وقطاعات أخرى، فوصلنا إلى وضع ضيعنا فيه الزراعة دون أن نتمكن من التحكم في التصنيع. وتنطبق هذه الأمثلة على جل المجالات الأخرى الاقتصادية منها والثقافية.. الخ. أما عن المجال السياسي فيبدو أننا في تراجع مستمر، ولم نصل اليوم إلى تحقيق حتى بعض الأفكار التي نادى بها فرحات عباس. والمهم في كل هذا أن فرحات عباس، وعكس العديد من الشخصيات التاريخية والسياسية الوطنية، لم يفارق هذا العالم دون أن يدون مذكراته وأفكاره في إصدارات عديدة، تطرق في واحدة منها إلى “ليل الاستعمار”، وفي كتاب آخر إلى “تشريح حرب”، حيث أعطى انطباعاته وتحليلاته لثورة التحرير والمراحل التي مرت بها، وفي كتاب ثالث حدثنا عن “الاستقلال المصادر”، تطرق فيه إلى الصراع الذي برز غداة الاستقلال ومصادرة الحريات وإبعاد الشخصيات الثورية والسياسية التي كان لها دور بارز في الحركة الوطنية والثورة التحريرية، وكان آخر كتاب طبع بعد وفاته يحمل عنوان “غدا سيطلع النهار”، وقد تنبأ فيه فرحات عباس بالعديد من الأزمات التي عرفتها الجزائر بعد وفاته! [email protected]