استقى الروائي الأمريكي وليام فولكنر عنوان روايته الشهيرة “الصخب والعنف” من مسرحية “ماكبث” لشكسبير، القائل في الفصل الخامس “الحياة قصة يرويها معتوه، مليئة بالضجة والغضب ولا تعني شيئا”. نشرت الرواية سنة 1929 ولم تحقق الانتشار الذي تمناه فولكنر إلا بعد عدة سنوات من صدورها. لكن بعد سنوات من ذلك، أصبحت تسمى “رواية الروائيين”. ولا يعود فشل الرواية إلى صدورها متزامنة مع الأزمة الاقتصادية التي ضربت أمريكا حينها، بل نظرا لتجاوزها تقنيات السرد التقليدية، واعتمادها أسلوب سرد مرتبك يعبر في الأصل عن نفسية جيل جديد من الروائيين الأمريكيين العائدين منكسرين من الحرب العالمية الأولى، والذين أطلقت عليهم الروائية جيرترود شتاين تسمية “الجيل الضائع”. وتجلى أسلوب فولكنر المعقد في لغة متوترة قريبة من الكتاب المقدس، من شطحات الشعر ومن رمزية ظاهرة وقدرة على استعمال أسلوب تيار الوعي والمونولوج الداخلي الذي يقضي على الخطية المتعارف عليها، وجعل الرواية تتأرجح بين زمنين هما الماضي والحاضر، كتعبير عن نفسية أهل الجنوب المضطربة بين الماضي والحاضر. وتعد “الصخب والعنف” أول رواية كتبها فولكنر عن جراح الجنوب الأمريكي بعد الحرب الأهلية. وتدور أحداث الرواية حول أسرة كومبسون، من مدينة جفرسون، التي تسعى عبثا للتمسك بالتقاليد الأرستقراطية. الأب بليغ الكلام مهووس بالكتب الكلاسيكية ومعاقرة الويسكي. والأم شديدة الكبرياء والترفع لكنها دائمة المرض. عاد الكاتب بهذه العائلة إلى تاريخها على مدى ألفي عام، فجعل كثير من أفرادها يبدون كأنهم أحياء يرزقون. وعلى خلاف الروائيين الأمريكيين من بني جيله، قضى فولكنر معظم حياته في هذا الجنوب الأمريكي المضطرب. لم يغادره إلا خلال فترات قصيرة توجه فيها إلى المسيسيبي ثم نيويورك الصاخبة، أو إلى نيو أورليانز المليئة أجناسا مختلفة. وتندرج رواية “الصخب والعنف” ضمن صرح روائي بدأه في العام ذاته بنشر رواية “سارتوريس”، حيث تبرز ملامح الجنوب الأمريكي الذي ولد فيه بكل أبعاده التاريخية والأسطورية. وتشير الرواية إلى الأرستقراطية الجنوبية مجسدة في عائلة “آل سارتوريس”، حارسة التقاليد الأمريكية، كما كانت تبرز وسط مزارع القطن، والتي تقوم على تسخير العبيد السود، وخسرت كل هيبتها وأملاكها عقب انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية سنة 1865. وأمام فقدانها قاعدتها المادية، لم يبق أمام “آل سارتوريس” سوى الانكماش على أنفسهم والالتفاف حول ذكريات الماضي، ذلك الماضي الذي لا رجعة له. وفي مقابل عائلة الكولونيل سارتوريس، هناك عائلة “آل سنوبس” التي ترمز للطبقة البورجوازية الجديدة ذات الميول الانتهازية والطبائع البليدة والأخلاق النفعية. لم تكن “الصخب والعنف” في الأصل سوى قصة قصيرة تدور أحداثها في مقبرة عند دفن جدة آل كومبسون، وتتناول موضوع الموت وكيف ينظر إليه أطفال صغار. لكن القصة القصيرة أصبحت رواية.. وأي رواية. وهنا يشير فولكنر، وفق ما جاء في كتاب أندري بلايكاستن، إلى أنه مزق كل عناوين الناشرين، وقرر قطع الصلة مع القراء، وقال لنفسه إنه سوف ينكبّ على كتابة رواية كما يريدها هو، وليس كما يرغب فيها الناشر والقراء. أراد أن يفرض شخصيته ككاتب. وبالفعل بدأ فولكنر في الكتابة لنفسه، وفق رغباته وشطحاته، فانفتحت أمامه عوالم الكتابة، وصرح لاحقا “لأول مرة لم يكن أمامي أي خطة”. ونجده يقول لاحقا “لا أدعي بأن للكلمات حياة مستقلة. ولكني أعتقد أن الكلمات إذا جمعت بمهارة فائقة تنتج شيئا حيا، كما تخلق الجو والأرض والأحوال الملائمة الأشجار، فإن الكلمات كالأغصان، لا تخلق الواحدة منها شجرة، ولكن إذا جمعت فإنها ولاشك تنتج شجرة”. ورغم فشل الرواية، ظل فولكنر يعتقد أن كتابه يندرج خارج التقاليد الأدبية، وسوف ينتقم لنفسه يوما. كان يدرك ذلك جيدا، إذ قال لأحد رفاقه “انظر لهذا الكتاب.. إنه ابن عاهرة”، ثم أضاف “لن يكون بإمكاني كتابة رواية تضاهي الصخب والعنف”.