إن التحليل العلمي لا يمكن له تجاهل التاريخ الواقعي، أي موضوعية هذا التاريخ، إذ أننا لا نجد أنفسنا أمام أنساق ثابتة فقط، ولا أمام وقائع تندمج نسبيا في بنية اجتماعية، بل أمام مجتمعات تتغير وتتحول خلال الزمان والمكان وأمام بنيات اجتماعية خاضعة للتغيير والتطور، أي أنها تظهر في وقت غير مرتقب، ثم تتطور دونما الاهتمام بها ثم تختفي أي أنه ليس ثمة تزامن فقط بل هناك تعاقب أيضا. لنأخذ مثلا- المسلسل السياسي الجزائري منذ الاستقلال، فنجده متطابقا كل التطابق مع ما قدمناه نظريا، فالمنطلق في هذا المسار هو الاستقلال ثم الصراع بين بن بلة وبومدين ثم الانقلاب العسكري الذي قام به بومدين، ثم محاولة هذا الأخير ترسيخ الاشتراكية ”الجزائرية”، ثم وفاة بومدين (هل كانت طبيعية أم عمدية؟ هل اغتيل بومدين أم لا؟ وهذه المساءلة لم تطرح إلا نادرا، لماذا؟)، ثم وصول الشاذلي بن جديد إلى سدة الحكم ليرسخ الليبرالية الاقتصادية وبمحو كل ما أسسه نظام بومدين، ثم جاء دور العشرية الحمراء، حيث حاول الإرهاب الإسلاموي اغتيال الشعب الجزائري، ثم جاء دور بوتفليقة لتكريس الرأسمالية المتعجرفة وتنصيب الولاء الشامل للولايات المتحدة ولأوروبا الغربية، ثم جاءت فترة الحكم البوتفليقي التي دامت خمس عشرة سنة والتي ستستمر عهدة كاملة (الرابعة)، يتم من خلالها إدماج الجزائر بطريقة نهائية ومتداومة داخل الكيان الرأسمالي والإمبريالي الغربي لمدة لا يمكن حصرها بدقة. فالمثل الجزائري طال كذلك الكثير من البلدان الإفريقية الاشتراكية إلا أنه ليس يكفي القبول بوجود هذين المجالين للواقع، بل ينبغي القبول بالعلاقة المتبادلة بينهما أيضا، خاصة أن الأمر يدور حول رؤية ما إذا كان التعاقب شيئا خارجا عن ذات النسق أم واقعا داخله. وما كان بوسعنا وبمقدورنا أن نتجاهل دائما التحولات الداخلية لهذا الأخير أو أن نختزلها إلى مجرد اضطرابات عابرة، ذلك أن هذا المسار الجزائري المنسجم في مضامين ثلاثة: الفترة الوطنية، الفترة الاشتراكية، الفترة الرأسمالية، قد سطر من طرف المقررين الغربيين (الولاياتالمتحدة وفرنسا على وجه الخصوص، وذلك منذ الخمسينياتǃ). كما علينا أن نحدد ما إذا كان التحليل العلمي يتجلى فقط على مستوى التزامن، وما إذا كان التعاقبي لا يقع ضمن البنية نفسها. وإجمالا، فإن الأمر يدور حول رؤية ما إذا كان التزامني تاريخيا أيضا، من حيث إن كل بنية بدورها إنتاج ونتيجة. هكذا إذن، إذا قبلنا بثبات نسق ما ثباتا نسبيا، وبأنه من الممكن إهمال تحولاته (وهنا تتبلور الكارثة الجزائرية) في إطار معين أو في حد معين، مادامت لا تؤثر عليه جوهريا وكيفيا، فإنه لا يمكن نفي أن النسق من حيث إنه نتاج تاريخي يمتلك أحلاما وأنه يستقر ويتطور ثم يتحول في النهاية، والحال أن هذا هو ما يشكل التاريخ، أو بالأحرى مادة التاريخ. فالمثل (أو النموذج) الجزائري لا يقتصر على هذا البلد وإنما هو في طريق التعميم القاري، خاصة ونحن نتعلم ونشاهد كل يوم أن القارة الإفريقية أصبحت مخبرا هائلا لإخضاع الشعوب وتعبيدهم والسطو ليس فقط على خيراتهم وإنما كذلك على ثقافتهم وهويتهم وهي تمزق إربا إربا ويوما بعد يوم. وهكذا أصبحت الجزائر، اليوم، مجرد وسيلة يستعملها الغرب لسنّ سياسته الجيو- استراتيجية الناجحة. إلى متى؟