لمّا كان اعتدال البدن وصحّته وبقاؤه إنّما هو بواسطة الرّطوبة المقاومة للحرارة، فالرّطوبة مادة، والحرارة تنضجها، وتدفع فضلاتها وتصلحها وتلطفها، وإلاّ أفسدت البدن ولم يمكن قيامه، وكذلك الرّطوبة هي غذاء الحرارة، فلولا الرّطوبة، لأحرقت البدن وأيبسته وأفسدته، فقوام كلّ واحدة منهما بصاحبتها وقوام البدن بهما جميعًا، وكل منهما مادة للأخرى. فالحرارة مادة للرّطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة، والرّطوبة مادة للحرارة تغذوها وتحملها، ومتى مالت إحداهما إلى الزّيادة على الأخرى، حصل لمزاج البدن الانحراف بحسب ذلك، فالحرارة دائما تحلّل الرّطوبة، فيحتاج البدن إلى ما به يخلف عليه ما حللته الحرارة، لضرورة بقائه، وهو الطعام والشّراب، ومتى زاد على مقدار التحلّل ضعفت الحرارة عن تحليل فضلاته، فاستحالت مواد رديئة، فعاثت في البدن، وأفسدت، فحصلت الأمراض المتنوعة بحسب تنوع موادها وقبول الأعضاء واستعدادها. وهذا كلّه مستفاد من قوله تعالى: {وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّ اللهَ لا يُحِبّ المُسرفين} الأعراف:31. فأرشد سبحانه عباده إلى إدخال ما يقيم البدن من الطّعام والشّراب عوض ما تحلّل منه، وأن يكون بقدر ما ينتفع به البدن في الكمية والكيفية، فمتَى جاوز ذلك كان إسرافًا، وكلاهما مانع من الصحّة جالب للمرض، أعني عدم الأكل والشّرب ضار والإسراف فيهما أضرّ.. فحفظ الصحّة كلّه في هاتين الكلمتين الإلهيتين، ولا ريب أنّ البدن دائمًا في التحلّل والاستخلاف، وكلّما كثر التحلّل ضعفت الحرارة لفناء مادتها، فإنّ كثرة التحلّل تفني الرّطوبة، وهي مادة الحرارة، وإذا ضعفت الحرارة ضعف الهضم، ولايزال كذلك حتّى تفنى الرّطوبة، وتنطفئ الحرارة جملة فيستكمل العبد الأجل الّذي كتب الله له أن يصل إليه.