قريبة من بلاد النفط بعيدة عن قصر قرطاج، لا يفصل جندوبة عن الحدود الجزائرية أكثر من 50 كيلومترا، ولا تبعد عن العاصمة تونس إلا ب150 كيلومترا، لكنها مع ذلك تعد من أكثر الولايات والمناطق فقرا في تونس، التي تشهد بين الفترة والأخرى احتجاجات للشباب العاطل عن العمل، والذين زادت المشكلات الأمنية على الحدود مع الجزائر في الحد من نشاط التهريب الذي يمارسه بعضهم. لم تهدأ الاحتجاجات في منطقة جندوبة، جذوة الغضب مازالت تؤشر على أن الأوضاع لا تتجه إلى الانفراج، خاصة بعد إقدام كهل على إحراق نفسه ويرقد الآن في مستشفى جندوبة. وبسبب استمرار مشكلات البطالة والغبن الاجتماعي الذي لم ينته، يؤكد الشباب المحتج في جندوبة، خاصة الحاصلين على الشهادات العليا، أن المنطقة تعيش على الهامش منذ عقود، ولم تستفد من أي خطط إنمائية تتيح للسكان الحصول على ظروف عيش كالتي في مدن الساحل التونسي. ويعتقد السكان في هذه المنطقة أن موقع جندوبة على الحدود مع الجزائر، كان يفترض أن يحول المنطقة إلى فضاء تجاري حر بين البلدين، ومنطقة للمشاريع الإنمائية المشتركة، لكن الواقع لا يخبر بذلك، صور الفقر والتهميش التي تطغى على مدن ومناطق جندوبة، تؤشر على تفاصيل مأساوية غابت في كثير من الأحيان عن خطط التنمية في تونس، إذ تعد جندوبة ثالث منطقة تزدهر فيها البطالة على سوئها، تتجاوز نسبة العاطلين عن العمل فيها، بحسب الأرقام الرسمية، 25 في المائة، وتأتي في الترتيب الثالثة بعد منطقتي تطاوين وقفصة، ويضطر عدد كبير من شبابها، بمن فيهم المتخرجون من الجامعات، للهجرة إلى تونس العاصمة والمدن الساحلية للعمل وإيجاد فرصة لتحسين المستوى المعيشي لهم ولعائلاتهم، قليل منهم من أتيحت له فرصة الهجرة إلى الخارج، أما من يبقى في جندوبة، فإما التوجه إلى الأعمال البسيطة أو النشاط في التهريب عبر الحدود مع الجزائر، خاصة تهريب الوقود والمواد الغذائية المدعمة. في كثير من المحلات التجارية سيلاحظ وجود عدد من السلع الجزائرية التي يتم جلبها عبر الحدود. لكن التدابير المشددة التي اتخذتها السلطات الجزائرية في الفترة الأخيرة، وزيادة أسعار الوقود، قلصت إلى حد كبير نشاط المهربين وخنقت هذا النشاط، فضلا على أن الوضع الأمني ونشاط المجموعات المسلحة في المنطقة الحدودية، زاد من مخاوف الشباب الذين كانوا ينشطون في التهريب. ويقول محمد، وهو شاب ينشط في التهريب منذ سنوات: “للأسف كان ذلك هو المهرب الوحيد لنا، نحن لا نتنعم بالتهريب؟ نقتات عيشنا فقط، هناك من يعتقد أننا نربح الملايين، ليس كذلك، نحن نخاطر من أجل خبزنا اليومي، لو وجدنا فرص عمل كريمة لما خاطرنا بأنفسنا”، مشيرا إلى أنه “في الفترة الأخيرة أغلق علينا هذا الباب، الجزائريون سدوا الحدود والإرهابيون زادوا من مخاوفنا، الكثير من الشباب توقفوا عن النشاط وتوجهوا للجلوس في المقاهي”. تكثر المقاهي في جندوبة بشكل لافت، وكثرة المقاهي وجلاسها دليل على البطالة التي مازالت تشكل العامل الأول للحراك الاحتجاجي الذي اندلع الأسبوع الماضي في كثير من مدن تونس، وخلالها أحرق شاب يدعى توفيق عشي نفسه، احتجاجا على عدم توفر فرص عمل. منطقة جندوبة كانت في قلب هذه الاحتجاجات التي مازالت بعض آثارها، الشباب العاطلون عن العمل من أصحاب الشهادات احتلوا مقر الولاية، قبل أن يتم التفاوض معهم من قبل السلطات التونسية. والي ولاية جندوبة قدم سلسلة وعود للمحتجين بتوفير فرص للعمل، وتزامنت هذه الوعود مع حزمة إجراءات أقرتها الحكومة بهذا الشأن، وشملت منطقة جندوبة، لكن العاطلين عن العمل، الذين لديهم سوابق كثيرة مع وعود الحكومات، مازالوا يرفعون لافتات الاحتجاج، رغم طردهم بالقوة من مقر الولاية من قبل قوات الأمن. سلوك رأت فيه الرابطة التونسية لحقوق الإنسان أنه تعامل أمني فض من شأنه أن يعيد جذوة الاحتجاجات العنيفة التي نجحت الحكومة نسبيا في تهدئتها إلى حين، وأصدر اتحاد العاطلين عن العمل في جندوبة بيانا أكد فيه الشباب “رفضهم لسياسة التسويف والمماطلة التي تنتهجها الحكومة الحالية في التعامل مع الملفات العالقة وفي إيجاد وعرض حلول جدية لأزمة البطالة، بالإضافة لعدم وجود برامج وتصورات واضحة”. ويعتقد الشباب في جندوبة أن “تواصل سياسة المماطلة والتسويف التي تنتهجها الحكومة وعدم وفائها بوعودها وعدم جديتها في تعاملها مع المطالب الأساسية لثورة الحرية والكرامة، كالتشغيل والتنمية المتوازنة بين الجهات، نتج عنها ارتفاع في نسب البطالة وتفاقمها، وتدهور لأوضاع العاطلين عن العمل بمختلف مستوياتهم وشهاداتهم العلمية، وهو ما دفعهم إلى خوض أشكال نضالية متنوعة كالاحتجاج”. ليست البطالة فقط ما يرهق يوميات سكان جندوبة وبلداتها الحدودية، خاصة في فصل الشتاء وتساقط الثلوج، حيث تنعزل قرى وبلدات عن العالم لأيام. يقول أيمن الكحلاوي من بلدة الكحالة بغار الدماء التي تتبع ولاية جندوبة: “نعيش في منطقة نموت فيها موتا بطيئا، الثلوج وصلت مستوى 85 سم فوق السطوح التي انهارت، والدكاكين فرغت من محتوياتها والطريق مغلق منذ خمسة 5 أيام، توجهنا بنداء استغاثة ومع ذلك لا تلتفت إلينا الحكومة”. وبين الفترة والأخرى تفرض هذه الظروف على السكان الخروج للتعبير بغضب عن احتجاجهم ومطالبة السلطات بحل مشكلاتهم البسيطة، لكن الحكومة والموالين لها يقولون إن المخلفات المترتبة عن عقود من التهميش من قبل النظام السابق، لا يمكن استدراكها في سنة أو سنتين، وتحتاج إلى صبر، والظاهر أن صبر التونسيين نفد أو يكاد.