يراوح مشروع الاتحاد المغاربي مكانه رغم مرور عقود ثلاثة على تأسيسه، بل إن الدول الخمس المشكلة له غرقت في المزيد من القطرية منذ لقاء زرالدة ولم تحرّك موجة الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة قبل ثماني سنوات الدماء في جسد هذا التجمع الإقليمي المتهالك.. إنها المعاينة الأليمة التي بلغتها مجموعة من الخبراء والباحثين في ندوة الحمامات بتونس. احتضنت مدينة الحمامات السياحية، 70كم عن العاصمة التونسية، على مدى يومي السبت والأحد الماضيين، ندوة فكرية نشّطها عدد من الباحثين والمختصين في الشؤون السياسية من تونسوالجزائر والمغرب وليبيا وموريتانيا، حاولوا عبر 5 جلسات، رسم حصيلة وآفاق "التحولات السياسية في المغرب العربي"، في الذكرى الثلاثين لتأسيس الاتحاد، بمبادرة من مركز الدراسات المتوسطية والدولية في تونس، بالتعاون مع مركز الجزيرة للدراسات في قطر. وأكد الدكتور أحمد إدريس، مدير مركز الدراسات المتوسطية والدولية، في افتتاح الندوة، على أن "فكرة المغرب العربي لا زالت موجودة لأنها ترسخت في أذهان شعوب المنطقة ونخبها منذ طرحها في الخمسينيات". من جهته، شدد الدكتور محمد مختار الخليل، على ضرورة النظر إلى مفهوم المغرب العربي ك "حالة من حالات الأمة ككل وليس كمجرد تجمع جهوي أو إقليمي". ولم يخف مدير مركز الجزيرة للدراسات، تفاؤله بمستقبل المشروع المغاربي "فلقاؤكم هذا كممثلين عن نخب المنطقة من شأنه تعويض ما فوّته علينا السياسيون".
ربيع عربي واحد ومسارات مختلفة
وناقشت الجلسة الأولى من الندوة، حصيلة الإصلاحات والتحديات السياسية الداخلية في دول الاتحاد المغاربي، حيث فكك المتدخلون المسارات المتباينة لهذه الدول في التعاطي مع الربيع العربي. وكانت البداية مع الدكتور أحمد إدريس الذي قرأ مسار الانتقال الديمقراطي في تونس بعد الثورة، عبر ثلاثة محاور وهي الانتقال وسوسيولوجية الفعل السياسي على ضوء التحولات وانعكاسات ذلك على الدولة التونسية وما أصابها من هشاشة. وذكّر المتدخل بما عاشته تونس من تغيير جذري في منظومتها المؤسساتية عبر 3 مواعيد انتخابية، موضحا أن "الانتقال الديمقراطي حصل فعلا في تونس لكن التجربة لم تبلغ بعد مداها"، لكنه أشار في المقابل إلى أن "دستور 2014 جاء مكرسا للديمقراطية والتعددية والتقدمية في الحقوق والحريات، لكن التعامل معه في الواقع لم يكن في المستوى". وبرر إدريس هذا التعامل بالاستقطاب الذي ميز المرحلة الانتقالية وهشاشة البنى الحزبية، فيما عدا حزبا واحدا (ويقصد حركة النهضة)، بالإضافة إلى الثقافة السياسية السائدة، مضيفا بأن "تغيير هذه الأخيرة أصعب بكثير من تغيير النصوص والمؤسسات". وعاد الدكتور امحمد المالكي، أستاذ القانون العام في كلية الحقوق بجامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان، إلى "زلزال" 20 فيفري في المغرب، الذي فرض على الملك محمد السادس في أعقاب موجة الربيع العربي، إطلاق حزمة من الإصلاحات، بدأها بتعديل دستوري منح الجهاز التنفيذي سلطات أوسع. لكن المالكي يرى بأن "المغرب بقي سجين العديد من الإكراهات، منها بلقنة المشهد الحزبي وخلق مجتمع سياسي مأزوم من حيث الفعل وقصور في الأداء الحزبي، بحيث تحولت الأحزاب إلى "آلات" انتخابية هجرتها النخب، فلا تقوم بدورها في التأطير والوساطة، إلى جانب العوائق الاقتصادية والاجتماعية، ما أدى إلى مفارقة في البلاد بين التحديث والنتائج". واختصر محمد جميل منصور، القيادي في حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل"، والنائب السابق في البرلمان الموريتاني، السنوات الثماني التي مرت على الربيع العربي في المنطقة المغاربية بقوله: "تونس كانت أول البادئين وآخر العاضين، والمغرب أول الفاهمين وأسرع المتكيفين، والجزائر بين ثقل الماضي والخوف من الحاضر، فيما ليبيا أول الدافعين للثمن الباهظ وأكبر الخاسرين"، قبل أن يضيف "مشكلتنا في موريتانياوالجزائر وليبيا تكمن في عدم وضوح السقف، عكس تونس التي فيها السقف مرفوع، بينما في المغرب معروف، أما في موريتانياوالجزائر فالسقف لا هو مرفوع ولا هو معروف". ورسم الدكتور السنوسي بسيكري من ليبيا، صورة قاتمة لواقع التحول في ليبيا ما بعد الثورة، مذكرا بأن قيادات هذه الأخيرة لم تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المجتمع الليبي الذي لم يعرف من قبل دولة المؤسسات والحقوق والحريات، مما أحدث خللا حقيقيا في التأسيس. أما الدكتور محمد سي بشير، الأستاذ في المدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية بالجزائر العاصمة، فوصف ما تعيشه الجزائر اليوم ب "الارتداد السياسي" عبر مؤشرات موزعة على الصورتين الأمنية والريعية "فالنظام سدّ كل الأبواب وحصر السلطة بين الرئاسة والجيش ورجال الأعمال"، وانتهى إلى الدعوة لإنتاج وعي جديد، موضحا بأن "الاستبداد ليس من طبائعه الديمومة".
"مناعة اللامغرب".. الأسباب والتداعيات
وأدار الأستاذ لطفي الحاج، جلسة ثانية تحت عنوان "العلاقات المغاربية: الإمكانات والعوائق"، ناقش فيها الأساتذة منير الكشو واسماعيل القريتلي وفؤاد عمور وسيد اعمر شيخنا، حاجة دول المغرب العربي إلى التعاون فيما بينها، مبرزين النزاعات البينية التي تعيقهم وما يترتب عنها من آثار سيئة على اقتصادات وأمن وتنمية تلك الدول. وفي نفس الجلسة، اقترحت الباحثة الجزائرية الدكتورة، لويزة آيت حمادوش، أستاذة العلوم السياسية بجامعة الجزائر، على الحضور، مقاربة مستحدثة حول مآلات مشروع الاتحاد المغاربي، عندما استدعت مفهوم "مناعة اللامغرب" وحاولت أن تفكك أسبابه وتداعياته. وفي بداية مداخلتها، لخصت لويزة آيت حمادوش، ما انتهى إليه الربيع العربي في المنطقة بقولها "سقطت دولة وسقط نظام وتزعزعت أنظمة"، قبل أن تفصل في تأثير نفس الربيع العربي على حالة "اللامغرب". ولفتت آيت حمادوش الانتباه إلى خطورة هذه الحالة عبر سوقها لمجموعة من الأرقام الاقتصادية، وكأني بها أرادت أن تقول بأن الخروج من "اللامغرب" لن يكون إلا بإحداث الصدمة في عقول المعنيين بصناعة القرار أو استهلاكه، خاصة وأن الدول المغاربية تعاني من نفس المشاكل التنموية. وذكرت أستاذة العلوم السياسية، بأن الصادرات المغاربية تراجعت، فلم تعد تمثل سوى 0,4 بالمائة من التجارة العالمية، بعد أن كانت تمثل 2 بالمائة، كما ذكرت بالتكلفة الباهظة ل "اللامغرب" التي لا تقل عن ال 2 بالمائة من الناتج الوطني الخام لدول المنطقة، إضافة إلى الخمسة ملايير دولار من الاستثمارات الخارجية التي تخسرها تلك الدول كل سنة بفعل هذه الحالة. واستبعدت الدكتورة لويزة آيت حمادوش، أن تقدم دول الاتحاد على اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من هذا النزيف الاقتصادي، كونها توجّهت إلى حلول أخرى تكرس تبعية كل دولة لأوروبا شريكها الأساسي، إلى جانب تحصين العلاقات الثنائية محدودة الأثر. وبعد مناعة اللامغرب الاقتصادية، عرجت المتدخلة على المحور السياسي والأمني، حيث شددت على أن "ليس هناك دولة يمكن أن تواجه بمفردها التهديدات والمخاطر المتربصة بالمنطقة"، قبل أن تضيف "ليس من المعقول مواجهة التهديدات العابرة للقارات بحلول قطرية". وتتمثل الحلول القطرية، حسب الدكتورة لويزة، في تحصين الحدود، وفي ذلك اعتمدت دول الاتحاد على نفس الإجراءات تقريبا، كما اعتمدت على قوانين متشابهة في مجالات مكافحة الإرهاب والتهريب والهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة، إلى جانب توجّهها نحو التعاون الأمني الثنائي، واعتبار أن أمن الدول ينطلق أساسا من مبدأ توازن القوة، مما دفع بها إلى الدخول في سباق مرهق نحو التسلح وتكريس التبعية التسليحية للغرب، قبل أن تنتهي إلى أن "لا شيء تغيّر على مستوى مناعة اللامغرب منذ سنة 2011 اعتمادا على هذه المؤشرات الاقتصادية والأمنية والسياسية". وأدار الدكتور محمد سعدن طالب، جلسة تناولت محور "علاقات دول المغرب العربي بالجوار الإقليمي والقوى الدولية"، ناقش فيه الأساتذة رفيق عبد السلام وعبد النور بن عنتر ومحمد سيد أحمد فال الوداني وصلاح قادري وإسماعيل حمودي، إشكالية التفاعل بين دول المغرب العربي مع دول الجوار التي تعاني من حالة اضطراب أمني وعجز اقتصادي، ومع القوى الدولية التي تتعامل مع المغرب العربي وجواره لحسابات أمنية واقتصادية.
تقية الحواس: ارتباط حتمي بين التهميش والتمرد
وناقشت رابع جلسات الندوة موضوع التهديدات العابرة للحدود كالإرهاب و المخدرات واللاجئين، وتحت إدارة الدكتور أحمد إدريس، سعى الأساتذة الحواس تقية ومصطفى عمر التير ومحمد محمود أبو المعالي، إلى تفكيك التهديدات التي تتجاوز الحدود، سواء بين الدول المغاربية أو بجوارها الإقليمي أو مع الدول التي لا تقع بجوارها مثل دول المشرق العربي أو أمريكا اللاتينية، وهي تهديدات الجماعات الإرهابية التي مثلت خطرا جديا على كل من ليبيا وتونس، والاتجار بالبشر وقضايا اللاجئين. ويحاول الباحث الجزائري في مركز الجزيرة للدراسات، تقية الحواس، أن يفهم التهديدات العابرة للقارات كالهجرة غير الشرعية وتجارة المخدرات والإرهاب، من خلال مقاربة الأوضاع الصعبة في دول الاتحاد التي أنتجت "مجموعات من المهمّشين"، كما أنتجت مواطنين يسعون إلى الوصول لاستراتيجيات فردية تمكّنهم من تجاوز "الأوضاع التي لا تطاق"، ويرى تقية الحواس، أن مقاربته يمكن أن تحمل أجوبة أخرى للربيع العربي. ودفعت "الأوضاع التي لا تطاق"، حسب المتدخل، إلى إنتاج إقصائين، إقصاء الشعوب من صناعة القرار والتأثير فيه وإقصاء الدول لبعضها البعض في مجالات التنمية، وليس غريبا بفعل هذه المعاينة، أن يبحث بعض المهمشين عن حلول خارج القانون، فذكر بمختار بلمختار الذي كان يطلق عليه لقب "السيد مارلبورو" لجمعه بين نشاطي التهريب والعمل المسلح. ويرى تقية بأن المهمّشين يشكّلون أكبر حزب في دول المنطقة، وهم في بحث دائم لإيجاد مساحات لنشاطاتهم غير القانونية خارج سيطرة الدول، وتفصيلا عدَد مجموعة من المتغيرات لعل من أهمها أن هذه المجموعات تتحرك عادة بين الحدود مستثمرة في انشغال دول الاتحاد بخلافاتها، إلى جانب التدخلات الخارجية التي عمّقت فشل الدول المغاربية، كما هو حاصل اليوم في ليبيا. وأوضح المتدخل بأن "الدول المغاربية تمر بفترة تراجعت فيها الموارد بشكل كبير، مما عقّد من عمليات شراء السلم الأهلي والولاءات"، إضافة إلى أن "دول الاتحاد محاطة بعدد من الدول الفاشلة، كما هو الشأن بالنسبة لليبيا والسودان ومالي والنيجر والتشاد وإفريقيا الوسطي"، مساحة جيواستراتيجية يفضّل الأستاذ تقية توصيفها ب "قوس الدول الفاشلة". وذكّر تقية بتجربة الجزائر مع الهجوم الإرهابي على منشأة تيقنتورين الغازية، التي وصلت إليها الجماعات، مرورا بحدود عدد من الدول المنتمية إلى "قوس الدول الفاشلة"، مؤكدا على أن "تلك الجماعات تزداد قوة كلما ازدادت الدول المعنية هشاشة"، ومشيرا إلى الارتباط الحتمي بين التهميش والتمرد.
لا ديمقراطية دون نخب
واختتمت الندوة بجلسة بثتها "الجزيرة مباشر" وتناولت محور دور المجتمع المدني في صناعة مستقبل المغرب العربي، وكانت البداية مع الدكتور محمد المختار خليل الذي اختصر حاضر دول الاتحاد ومستقبلها في مجموعة من العناوين العريضة من قبيل "التوانسة نجحوا في الوصول إلى ديمقراطية توافقية"، و"المغرب فضّل التوجه إلى الإصلاح من الداخل عبر دستور جديد وتسليم جزء من السلطة للشارع"، و"لا يمكن أن نتصور مسارا ديمقراطيا دون مشاركة النخب"، و"في ليبيا نحن لا نعيش الربيع العربي بل الثورة المضادة". أما مداخلة الدكتور عبد الرزاق مختار، فدارت حول فكرة أن "الثورة التونسية حققت عناوينها السياسية، لكنها لم تحقق بعد عناوينها الاقتصادية والاجتماعية"، قبل أن يضيف "نجحنا في توزيع السلطة لكننا لم ننجح في توزيع الثروة". ووصف الدكتور أحمد الأطرش الوضع في ليبيا بقوله "نحن نعاني من اللادولة"، لكنه حذّر في المقابل من الحكم على التجربة الليبية بالفشل نظرا لوضع ليبيا قبل الثورة. ويرى الأطرش أن بعض المشاكل التي يعرفها مسار الانتقال في ليبيا ناتجة عن عدم تحديد المفاهيم الأساسية كالديمقراطية وحقوق الإنسان، إلى جانب غياب الضمانات المحلية والدولية، وعدم استدعاء المؤثرين الحقيقيين في المجتمع الليبي. وبعد تذكيره بتشابه المشاكل بين الدول المغاربية، أوضح الدكتور عمر البغزوز، من جامعة تيزي وزو الجزائرية، بأن "الجزائر لم تنتظر الربيع العربي لإقامة إصلاحات سياسية، بل إن تجربتها تعود إلى انتفاضة أكتوبر 1988 التي جاءت بدستور كرّس الحرية والتعددية". نجحت ندوة الحمامات، إلى حد بعيد، في تشريح واقع المشروع المغاربي وقراءة مستقبله، بعد مرور عقود ثلاثة من إطلاقه، واختلف الباحثون والمفكرون الذين نشطوها في الكثير من المحاور والمؤشرات، لكنهم بالموازاة أجمعوا على الدور الحيوي الذي يجب أن تلعبه النخب في سبيل الضغط على أصحاب القرار داخل دول الاتحاد ودفعها إلى تقارب أكثر وتعاون أكبر.