رحل بوتفليقة وترك تاريخه وراءه، ولم يحافظ على مجد صنعه على مدى عقود من الزمن، لينهي قصة حياته كرجل دولة ورئيس مع بداية العهدة الرابعة التي بدأت معها تظهر للمواطن الجزائري بداية انهيار مفهوم الدولة، وبدأ المواطن يتكلم ولو باقتضاب وبرمزية وعدم التصريح عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي عن "لصوص الدولة" وعن المال الفاسد الذي نخر أركانها، تختلس الأموال وتهرب إلى الخارج لشراء عقارات ومحلاّت تجارية لا يحلم أغنياء أوروبا باقتنائها، وكان مصير من بلّغ عن الفساد السجون أو المتابعات القضائية أو الفصل من العمل. منذ 2009 ظهر إلى العلن العديد من قضايا الفساد، أهمها قضية سوناطراك التي عصفت بوزير الطاقة والمناجم شكيب خليل في 2010 بعد 10 سنوات أمضاها في هذا المنصب. وفي فضيحة أخرى يتم التحقيق منذ 2009 مع مسؤولين كبار في قضية فساد تتعلق بمشروع الطريق السيار شرق غرب، "مشروع القرن" كما أسمته الصحافة، وبحسب صحيفة "الوطن" التي حققت في قضية الطريق السيار فإن 16% من تكلفة المشروع تم توزيعها في شكل رشاوى. وخلال العهدة الأولى لبوتفليقة (1999-2004) شهدت الجزائر أكبر فضيحة في القطاع المصرفي أدت إلى إفلاس "بنك الخليفة" وخسائر للدولة وللمدخرين، وحسب مستَندات تم إرسالها أثناء التحقيق للنائب العام لمجلس قضاء البليدة، قُدرت قيمة ودائع الهيئات الرسمية والشركات التي وصل عددها 11 شركة بأكثر من 128700 مليار سنتيم، أي ما يزيد عن394 مليار دولار آنذاك، في وقت قُدرت الثغرة المالية بالبنك بحوالي 3200 مليار سنتيم كضرر لحق الخزينة العمومية. كلّ ما سيذكره الجزائريون في عهد "العزة والكرامة" هو سريان الفساد بشكل غير مسبوق في أوصال الدولة والمجتمع، وارتباط اسم الرئيس بأسماء حفنة من الفاسدين وعصابة من الأشرار تركوا الدولة تعيش أسوأ مرحلة في تاريخها.
المرحوم بلعايب.. شاهد من أهلها
صرح وزير التجارة السابق الراحل بختي بلعايب، على هامش لقاء جمعه بناشطين وجمعيات مدنية سنة 2016، بأن "الفساد تجاوز سلطة الحكومة"، وأن "اللوبيات النافذة تدوس على قوانين البلاد وتمارس التهديد والتحدي"، وهو ما جعل ما كان سرا تتداوله العامة بشيء من الشك والريبة، إذ شهد شاهد من أهلها عن "تغوّل" لوبيات الفساد المالي والاقتصادي محمية من طرف سلطة نافذة في دواليب الحكم. وقال بلعايب "حتى وأنا وزير في الحكومة لم أستطع غلق مطعم كاد يتسبب في وفاة سيدة بعد إصابتها بتسمم غذائي، بسبب أن المطعم يتوفر على حماية شخصية نافذة". ولم تشهد الجزائر في تاريخها قبل تولي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة منصب رئيس الدولة ظاهرة تداخل الصلاحيات بين أصحاب المال بشكل خاص وبين القيادات السياسية والتنفيذية على مستوى الهرم الأعلى للدولة، ما جعل مرحلة بوتفليقة تمتاز بتغوُّل "الأوليغارشيا" على دواليب الحكم. ومنذ انطلق الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة في حملته الانتخابية للعهدة الأولى وهو يعيب على السلطة في الجزائر أنها لم تنجح في إقحام "رجال دولة" في تسيير أمور الجزائريين، وبخاصة في الحكومة، وانتظر السواد الأعظم من الجزائريين أن يُفاجئهم الرئيس بوتفليقة بأول تشكيلة حكومية سنة 1999 تتضمن غالبية من "رجالات الدولة"، وكانت المفاجأة كبيرة عندما قدم أسماء وزراء حكومةٍ وصفها رئيس مجلس الأمة المرحوم بشير بومعزة بأنها "تحوي 14 وزيرا أخلاقهم ولا بُدّ". ولم يمض وقت قصير حتى اكتشف الشارع أن الرئيس كوّن "عصابة" للسطو على أموال وثروات الجزائريين.
القصة غير الكاملة لثروات أبناء المسؤولين
صرح رئيس الفيدرالية الأوروبية للجمعيات الجزائرية كمال كشيدة، سنة 2013 لمصادر إعلامية، بأن المعلومات الرسمية المتوفرة لديه تؤكد على أن الجزائريين قد تمكنوا من اقتناء 3 آلاف و500 مسكن في إسبانيا بين شقة وفيلا، بأسعار تتراوح من 35 ألف إلى 250 و300 ألف أورو، مستغلين الأزمة التي تمر بها إسبانيا وأدت إلى انهيار أسعار العقار. وقال إن أغلب الأشخاص الذين تمكنوا من اقتناء الفيلات "5 نجوم" بها مسابح وكافة المرافق الأخرى التي تضمن عيشة الرفاهية هم أبناء وزراء وكبار المسؤولين. وكان وزير العدل حافظ الأختام السابق الطيب لوح كشف صراحة عن تسجيل قضايا فساد أبطالها مسؤولون وأبناء مسؤولين تعدوا على أملاك خاصة بالدولة قائلا "القضاء يقوم بواجبه في محاربة الفساد من خلال إصدار قراراته في جلسات علنية"، وأضاف "لقد تم إلغاء قرارات مسؤولين وأبناء مسؤولين من قبل القضاء الإداري بكل بساطة". وكانت "الوطن" قبل حوالي عام تناولت ملف ثروات أبناء المسؤولين الذين يتقاسمون كتلة مالية قوامها 60 مليار دولار سنويا، بالنسبة لقطاع الاستيراد، فضلا عن 13 مليار دولار في قطاع الخدمات، و7 مليارات دولار في شركات الحراسة، وقطاعات أخرى لا تعد ولا تحصى لا تُعرف قيمة الأموال التي تمثلها. ورأت الصحيفة أن الظاهرة بدأت في الانتشار مع أحد أبناء الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد الذي ظهر اسمه في قضية "رشيد طيسطا روزا"، والمستلهمة من اسم "تيستا روسا"، وهي إحدى سيارات شركة "فيراري" الإيطالية، وتوسعت لتشمل العديد من المسؤولين، قيادات في الجيش ووزراء ومسؤولين كبار في الإدارة.
مسؤولون وأبناؤهم يغتنون من مناصبهم
تقول مصادر إعلامية، ومنها موقع "الجزائرية للأخبار"، إن كلا من "ز. ب" و "ه. ب" يملكان رفقة شريك آخر "ن. س"، المنحدر من ولاية ميلة، شركة تعمل في مجال صناعة الأدوية والمواد الصيدلانية تم تأسيسها سنة 2016 ومقرها بالمنطقة الصناعية لزرالدة. الغريب في القضية أن الشركة تأسست وتحصلت على الاعتماد تحت رقم 166 في المرحلة التي كان فيها والدهما وزيرًا للصحة وإصلاح المستشفيات، قبل إنهاء مهامه في التعديل الحكومي الذي جرى سنة 2017. كما يعتبر ابن وزير أول سابق شخصًا "فاحش الثراء"، إذ يملك العديد من الشركات التي تدر عليه أموالا طائلة رفقة شريكه صاحب مجمع صناعي تضاعفت ثروته بسرعة فائقة بعد أن أصبح ابنُ الوزير شريكه. ومن بين الشركات التي يملكها هذا الأخير شركة مختصة في نقل منتجات البترول والغاز المميع. وشركة أخرى في مجال البناء ومركز للتجميل، كما يملك شركة تنشط في مجال الصناعات الحلوية رفقة مستثمر تركي. وتحدثت مصادر إعلامية عن رئيس منظمة "جماهيرية" يملك رفقة أبنائه أموالا طائلة، حيث يملك ابنه البكر شركتين للإنتاج السمعي البصري، مهمتها تصوير الإعلانات التلفزيونية واللافتات الإشهارية لكبرى الشركات الجزائرية، سيما شركات العجائن، وكذلك الشركات الدولية. أما الشركة الثانية فمهمتها تصوير الإعلانات الإشهارية للشركات الأجنبية في الجزائر. الابن الآخر لرئيس المنظمة يملك مؤسستين: الأولى تقع في برج الكيفان مختصة في معالجة ورسكلة النفايات. أما الثانية فهي وكالة للأسفار والسياحة تقع في بن عكنون وهي من الوكالات المعروفة بالجزائر العاصمة. ويملك "ه.ب" ابن وزير سابق شركة هامة مختصة في المتاجرة في أفخر أنواع الألماس في العالم مقرها لندن، إلى جانب شركات أخرى مختصة في الخدمات. وزير مثير للجدل تقلد العديد من الحقائب الوزارية وغيرها من المناصب السامية، تمكن خلالها من جمع ثروة معتبرة عبر العديد من النشاطات التجارية المربحة. وحسب موقع إخباري فهذا الوزير يملك استثمارات في عدة قطاعات اقتصادية من بينها الصناعة الصيدلانية، فهو يملك رفقة شريك آخر "ب.م" شركة تأسست في 22/05/2012 مختصة في صناعة الأدوية وترقية الإعلام الطبي والعلمي حول مجال الأدوية. وفي مجال الصناعة الصيدلانية أيضا يملك "و.و" ابن الوزير شركات تنشط في مجال "تخصص" والده، وأيضا في مجال الصناعة الغذائية فهو يملك شركة مختصة في إنتاج المياه المعدنية والمشروبات غير الكحولية، علاوة على استثمارات في مجال الصيد البحري، فهو يملك شركة مختصة في مجال بيع منتجات البحر بالجملة وتجميد الأسماك وتقديم مختلف الخدمات للصيادين. أما "ر.س" ابنة وزير أول فلها شركتان في بريطانيا إحداهما للنقل البحري وكانت لها شركة تم تسجيلها باسمها، كتبت كل أملاكها باسم زوجها الأجنبي. وكشفت تسريبات ضمن ما يعرف بفضيحة "أوراق بنما" أن ابنة وزير أول امتلكت شركة "أوفشور" مسجلة في الجزر العذراء البريطانية، وتعاملت من خلالها مع عمر حبور الذي ورد اسمه في فضيحة الفساد المتعلقة بشركة سوناطراك.
"زعماء" استولوا على أملاك وقفية و "النبش" فيه من "المحرّمات"
كشف وزير الشؤون الدينية السابق محمد عيسى، قبل عامين عن عملية استيلاء قام بها "زعماء" إسلاميون سابقون على أملاك وقفية وحولوها إلى أملاك خاصة. وقال عيسى بأن مصالحه أحصت 136 ملف لعملية الاستيلاء على الأملاك الوقفية من قبل أشخاص من بينهم شخصيات دعوية سابقة معروفة خلال فترة الإرهاب جراء ضعف الإرادة والبطش الذي كان يستعمل آنذاك على المجتمع. محمد عيسى لم يذكر أي اسم من أسماء "الزعماء" السياسيين الإسلاميين السابقين الذين تورطوا، كاشفا عن إحالة 15 ملفا على العدالة، مضيفا أن هناك أملاكا وقفية أخرى "استولت" عليها الدولة لكنها ستقوم بتعويضها. ولحد الساعة لا تزال الأملاك الوقفية تسيل لعاب الكثيرين من المكلفين بحمايتها وصيانتها، وتحوّلت إلى مصدر ثروة غير معلنة. وكان النبش في هذا الملف في عهد بوتفليقة من المحرمات لتقديسه المفرط للزوايا وخدام الأضرحة والأولياء، حتى تحول الكثير من الشيوخ إلى سلاطين في زمن الرئيس المستقيل، وهو الملف الذي يقول العارفون بخباياه بأنه لو يحقق فيه ستكشف أسرار خطيرة.
منتدى رؤساء المؤسسات.. وظل الرئيس
في سنة 2014 فاز علي حدّاد برئاسة منتدى رؤساء المؤسسات، أكبر المنظمات التي تجمع أرباب العمل في الجزائر، ليكسب شبكة من العلاقات داخل دواليب السلطة، فأصبحت لقاءاته مع سفراء الدول الأجنبية ومع الوزراء أمرا عاديا، وتحول مقر المنتدى إلى هيئة رسمية ذات سلطة موازية لسلطة حتى رئيس الدولة لقربه من شقيقه السعيد، فكان استقباله الوفود الأجنبية مؤشرا على حجم "نفوذه" السياسي المتزايد. وتُقدَّر مصادر ثروة علي حداد بأكثر من 1.5 مليار دولار، ويملك مؤسسات إعلامية لها دور في تسويق حكم الرئيس بوتفليقة وفي المساهمة في توجيه الرأي العام الوطني. وتسبب حدّاد في إقالة عبد المجيد تبون من منصبه وزيرا أول فور عودته من إجازته السنوية، بعد 83 يومًا فقط على تنصيبه، وتم تعويضه بأحمد أويحيى مدير ديوان الرئاسة والرجل الذي تقلّد منصب رئيس الوزراء 5 مرات من قبل، ويرى الكثيرون أن سبب إقالة تبّون هو مشروعه الطموح "فصل المال عن السياسة"، بعد النفوذ الكبير وشبكة المصالح الواسعة التي أنشأها رجال الأعمال بقيادة علي حدّاد في عهد الوزير الأول عبد المالك سلال. وكتب موقع "موند أفريك" الفرنسي بأن حدّاد يجيد قراءة التوازنات السياسية ويغيّر بذلك تحالفاته حتى يستطيع البقاء في كل مرحلة، ففي مرحلة ما قبل 2012 كانت له علاقات قوية مع الجنرالات النافذين في السلطة، أمثال الجنرال تواتي والجنرال أحمد، وبعد أن بدأ الرئيس بوتفليقة منذ 2012 حملة تطهير داخل مؤسسة الجيش أدت إلى الإطاحة بالكثير من الجنرالات الأقوياء الذين كان لهم نفوذ كبير، أدرك حدّاد أن عليه التحالف مع الطرف الأقوى في هذه المرحلة، الرئاسة، وكانت بوابته من أجل النفوذ داخل مؤسسة الرئاسة شقيق الرئيس سعيد بوتفليقة الذي طوّر صداقته معه وصارت صورهما في المناسبات العامة اعتيادية، كما ساهم بسخاء في الحملة الانتخابية للرئيس بوتفليقة في 2014. وتحوم حول حدّاد اتهامات بالفساد والتهرّب الضريبي، ظهرت في تسريبات أوراق بنما، حيث تقول التسريبات إن حداد يمتلك شركة مسجّلة في جزر العذراء البريطانية بمكتب المحاماة البنمي "موساك فونسيكا" منذ سنة 2004، وتكشف التسريباتُ الشركةَ المسجّلة باسم رجل فرنسي يدعى غاي فايت مختص في الشركات الوهمية، نفس الشخص الذي ذكرت "أوراق بنما" أن وزير الصناعة السابق بوشوارب، المقرّب من حدّاد، قد تعامل معه من أجل التهرب الضريبي.
المال السياسي يسمم أوضاع البلاد
تحوّل المال السياسي إلى بوصلة التحكم في مفاصل صناعة السياسة والسياسيين، خصوصا في الانتخابات التي مرت بها البلاد خلال السنوات الأخيرة، حيث غزت الساحة السياسية أسماء العشرات من رجال الأعمال من مدخل القوائم الانتخابية في مختلف الأحزاب، خاصة رباعية أحزاب الموالاة، وعلى رأسها حزبا جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي. في الجزائر احتكر رجال الأعمال مجال الإعلام فأصبحوا يملكون مؤسسات ضخمة وسخروا لصالحهم مواقع إخبارية جعلوها في خدمتهم، كما احتكروا أكبر المشاريع وأصبحوا يشترون المنتخَبين والوزراء وغيرهم بفعل تمويل حملاتهم الانتخابية والرشاوى والعمولات، إذ أصبح أغلب أعضاء الحكومة السابقين شركاء لأكبر رجال الأعمال، وأصبح صناع القرار تحت رحمتهم لغياب دولة المؤسسات وسيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلالية القضاء. واقتحمت هذه الطبقة الحياة السياسية وتغلغلت في بعض الأحزاب التي كان همها في الاستحقاقات الفوز مهما كان الثمن، وهكذا استغل أصحاب "الشكارة" هذه الرغبة الجامحة لقيادة بعض الأحزاب وأصبح لهم قرار، ويضغطون بفضل ثروتهم على صناع القرار في الأحزاب وحتى في بعض المؤسسات الدستورية.