تشهد الجزائر ارتفاعا ملحوظا في عدد المصابين بأمراض عقلية حيث أكدت معطيات الخارطة الصحية ببلادنا، أن أكثر من مليون جزائري يترددون سنويا على مصالح الطب العقلي، غالبيتهم شباب ومراهقين يعانون من اضطرابات عقلية. بين المختصون في الطب العقلي أن القلق والضغط النفسي الذي يعيشه الجزائري سبب رئيسي لها، يحدث هذا في الوقت الذي يسجل نقص في عدد المصالح الاستشفائية للطب العقلي، والتي أكد المشاركون، أول أمس، في لقاء تقييمي للمخطط الوطني لترقية الصحة العقلية، أنها تعج خاصة بمقيمين دائمين تخلت عنهم عائلاتهم، ليطرح مشكل نقص الأسرة للمرضى الجدد الذين تتزايد أعدادهم من سنة لأخرى.
"العقل" مشكل صحة عمومية
تمثل الصحة العقلية مشكل صحة عمومية بالجزائر وعلى مستوى مختلف دول العالم، حيث صنفتها المنظمة العالمية كثاني مرض من بين ال 10 أمراض تسببت في حصد أكبر عدد ممكن من الوفيات خلال السنوات الفارطة. ولمناقشة وضع الصحة العقلية عندنا وتفعيل المخطط الوطني الخاص بترقية الصحة العقلية بالجزائر، اجتمع آخر الأسبوع، أعضاء اللجنة المشرفة على ذات المخطط، وهي اللجنة التي تلتقي مرتين في السنة من أجل تقييم وضعية الصحة العقلية بالجزائر، وتحتوي على 20 عضوا تم توسيعهم هذه المرة إلى 70 عضوا شملوا ممثلين عن عديد الوزارات منها وزارة العمل ووزارة التربية الوطنية. وعن أهداف اللقاء أكد المدير الفرعي لترقية الصحة العقلية بوزارة الصحة، البروفيسور محمد شكالي في حديثه ل "الخبر"، أنه جاء من أجل إعادة الانطلاق في تجسيد المخطط الوطني لترقية الصحة العقلية، والذي توقف في السنوات الأخيرة بفعل جائحة كوفيد 19، واليوم يعاد تفعيله. ليضيف شكالي قائلا بأن الشيء الإيجابي ممثلا في حيازة الجزائر على هذا المخطط الذي لم تعتمده دولا كثيرة، رغم حث المنظمة العالمية للصحة على أن تكون لكل دولة استراتيجية خاصة بها في مجال مكافحة الأمراض العقلية، وهي التي وضعت مخططا عالميا لترقية الصحة العقلية، صادقت الجزائر على مخطط العمل الخاص به في الفترة الممتدة بين 2013 2020. كما جددت اعتمادها للمخطط المخصص للفترة الممتدة بين 2020 و2030، خاصة بعد اعتراف المنظمة بأن هناك عجزا عالميا بخصوص الاستثمار في الصحة العقلية، مع صعوبة وبطء في توفير الرعاية في الصحة العقلية للسكان، حيث لم يتمكن العالم من تحقيق معظم أهداف مخطط 2020، ممّا أدّى إلى تمديد مخطط العمل الخاص بالصحة العقلية إلى عام 2030.
العاصمة بحاجة ل 4 مستشفيات
وبخصوص توفر الهياكل الاستشفائية للطب العقلي التي لطالما سجلت نقصا ملحوظا بالجزائر مقارنة مع الطلب، أكد البروفيسور محمد شكالي، أنه "كان هناك تجميد لبعض المؤسسات الاستشفائية للصحة العقلية خلال السنوات الماضية، لكن حاليا سجل سعي لترقية الصحة العقلية سواء من حيث رفع التجميد عن بعض المؤسسات وكذا تطوير عدد الهياكل الاستشفائية، والتي بلغ عددها 24 مؤسسة استشفائية متخصصة، إلى جانب المصالح التي تحويها المراكز الاستشفائية الجامعية وبعض المؤسسات العمومية الاستشفائية" يضيف محدثنا قائلا. مؤكدا على أن النقص في التكفل وعدم تلبية الحاجة يبقى مطروحا على مستوى المدن الكبرى، ليطرح شكالي مشكل استحواذ المصابين بأمراض عقلية القدامى الذين تخلت عنهم عائلاتهم، على غالبية الأسرّة، وهو الأمر الذي تعرفه غالبية مصالح الطب العقلي، على غرار مستشفى فرانس فانون بالبليدة، مما يطرح مشكل التكفل بالحالات الجديدة التي تزداد من سنة لأخرى. ويشار إلى أن العجز الذي تسجله مصالح الطب العقلي بكبرى المدن الجزائرية في استيعاب عدد المرضى الذين يتزايد عددهم سنويا، يعود لسنوات مضت وليس وليد الساعة، فالجزائر العاصمة مثلا تحصي مستشفيين لا غير ممثلين في مستشفى دريد حسين ومستشفى الشراقة. في الوقت الذي يطالب خبراء في الطب العقلي بتوفير مرافق استشفائية أخرى، مؤكدين على أن العاصمة لوحدها في حاجة إلى 4 مستشفيات في حجم مستشفى دريد حسين حتى تفي بالطلب خاصة مع توافد المرضى من مختلف أنحاء الوطن.
انتشار القلق والاكتئاب
وعن هذه المسألة أكد لنا البروفيسور مصطفى خياطي رئيس الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث، أنه رغم خطورة المرضى العقلي وثقل التكفل به، يبقى "العقل" بالجزائر العضو الأقل حظا بالاهتمام في المنظومة الصحية، بدليل النقص الفادح في هياكل الطب العقلي التي تحصيها الجزائر. موضحا مثلا أن مستشفى ورقلة الذي كان سيخصّص لعلاج الأمراض العقلية وجه لاستعمالات أخرى، ناهيك عن نقص المؤطرين المختصين في الطب العقلي سواء الأطباء أو شبه الطبيين، ليوضح محدثنا بخصوص هذه النقطة، أن الطب العقلي في حد ذاته اختصاص غير مقصود بكثرة، كما أن المتخرجين منه يقصدون في غالبيتهم القطاع الخاص على حساب القطاع العمومي، مما دفع بالمستشفيات المتوفرة حاليا إلى رفض الكثير من الحالات الخطيرة. يحدث هذا في الوقت الذي يعيش الجزائري يوميا ضغوطات وقلقا متواصلا على كل المستويات يجعله عرضة للانهيارات العصبية، التي تؤثر على حياته العائلية والعملية، وفي هذا المجال بينت تقارير المنظمة العالمية للصحة، أن الاكتئاب والقلق اضطرابات تؤثر مباشرة على قدرتنا على العمل، موضحة أن أكثر من 300 مليون شخص عبر العالم يعانون من الاكتئاب، وهو السبب الرئيسي للتوقف عن العمل. وعن هذه النقطة بينت معطيات الصحة بالجزائر أن ثلث الجزائريين يعانون من ضغوط نفسية تتحول مع مرور الأيام إلى اضطرابات عقلية، قد تتفاقم بسبب امتناع المصاب عن عرض نفسه على اختصاص في الأمراض العقلية، التي لا زالت تشكل أحد الطابوهات المؤثرة في بنية المجتمع.