يعتقد كلّ من يزور معرض الفنان التشكيلي المحترف، غجاتي عبد الله، أنه داخل متحفا للفنون الجميلة، فالأعمال المعروضة كلّها روائع تعكس خبرة كبيرة أثمرتها سنوات طويلة من البحث والممارسة، لذلك يعتقد الكثير من زملاء هذا الفنان وتلاميذه أنّ غجاتي أو "عمي مصطفى" كما يكنى لم يأخذ حظّه من الظهور رغم أنه من فطاحلة هذا الفن في الجزائر التي اعتادت أن تنجب تشكيليين من الطراز الأول. يقيم هذا الفنان معرضه برواق "باية" إلى غاية ال11 أكتوبر القادم، حيث يعرض 82 لوحة كلّها تقريبا في الأسلوب التجريدي، مع لمسة واضحة من الإبداع والبحث والتمكّن من إثارة المواضيع التي غالبا ما تحمل رؤى فلسفية وفنية غير قابلة للتكرار في لوحات أخرى، وتحمل المواضيع في أغلبها مسحة اجتماعية تعرض الراهن بدون خطاب مباشر جاف منفر، بل تعتمد كلّها على الإيحاء وتقنية الأطياف التي تجسّد مختلف الشخوص. توالت اللوحات الكبيرة (شبه جداريات) في المعرض، أغلبها ذات عناوين، منها لوحة "ذاكرة" وهي ذات ألوان ترابية بين الأحمر الآجوري والبني والأصفر، تحمل أطيافا متوازية بشكل عمودي، تتخللها شخوص بشر وجماجم، تمتد منها خيوط الذكريات إلى الأعلى الماضي، وتسود في لوحة "الالتزام" عتمة الألوان، ومع ذلك تتصاعد الأيادي وتتشابك لتهتف بصوت واحد ملتزمة بذلك بقضيتها. وب"الكون" كواكب متناثرة مثل الثريات بأشكال متفاوتة تسبح في أفق السماء، تنعكس في جوفها المدينة النائمة بعمرانها الباهت، أما في لوحة "حنان" فيشعّ البياض وضّاحا، تنفجر منه ينابيع الحنان في كل الاتجاهات، مكسرة بذلك عتمة الألوان، خاصة تلك المنبعثة من القاع السحيق الممتد نحو المجهول. لوحة "ستار" عبارة عن مجموعات بشرية ممتدة إلى اللانهايات، تتطلع إلى الأفق المنير محاولة انتشال نفسها من العتمة، وتجمع "المجهول" أشخاصا مجهولين أغلبهم نساء، محاصرون وراء أقفاص يراقبون مستقبلا مجهولا، وفي "اضطراب" تدور الألوان بجنون، أغلبها ذات لون بني ترابي متدرج تتجه كلها نحو فوهة في مركز اللوحة. في "الحلم" تتكرّر أطياف البشر كلها تشبه رجل القشّ الممتلئة بالتفاؤل والأمل الذي يكاد من فرط اتّساعه أن يتجاوز حدود اللوحة، وتتناثر في لوحة "ثمين" الأحجار الصغيرة الشبيهة بالأحجار الكريمة، وهي تسبح في فضاء من النور لتمتد إلى رموز آثار الطاسيلي، وهي دلالة على تراثنا الثمين الذي لا يقدّر بثمن، ويعود الطاسيلي مجدّدا في لوحة "معركة" التي كانت من تقاليد أبناء المنطقة وما كان يحدث فيها من كرّ وفرّ. في لوحة "بناء"، تتصاعد الأشكال الهندسية كأنها بنايات تنمو كالنبات، يوازيها أشخاص يرعونها كدليل على النهضة العمرانية الحديثة، وتظهر لوحة "مهرجان" الأمواج البشرية في تداخل وتشابك ويظهر التلاحم بين مختلف الألوان كدليل على تكامل الثقافات واحتكاك الشعوب من خلال هذه المناسبات الجميلة، ويتجلى الجمال أيضا في لوحة "البالي" التي يظهر فيها طيف راقص ذو حركات رشيقة وخفيفة مثلها مثل حركات الريشة. يعكس هذا المعرض الضخم مسار هذا الفنان الغني والمتنوّع الذي تتشابك فيه رؤى المتمرس، رغم بعده عن الأضواء، وتستحق أعمال الفنان عبدالله غجاتي فخر الفن التشكيلي الجزائري بها، لأنّها تحمل الكثير من العمق الفني والبحث. أعماله الفنية تعتمد غالبا على رسوم تمهيدية، يليها وضوح الرؤية وتتميّز بلمسات سريعة تتشكّل منها شخوص آدمية متشابكة متصارعة أو متكاملة، قد تبدو في بعض اللوحات شخوصا في معزل عن بعضها وفي أخرى تتناسل شخوص من شخص واحد، وتفرض تقنية الظل هنا نفسها لتعوض أحيانا الشخوص وتلعب الخطوط دورا هاما في تشكيل هذه الشخصيات، كأنها خطوط كاليغرافية يحاول الفنان ببراعته أن يجعلها مركزا للرؤية.. كما يمنحها حيوية وديناميكية بحركاتها المدبة فوق سطح اللوحة وألوانه غالبا ما تكون حارة، يبقى الفنان التشكيلي عبد الله غجاتي علامة فنية بارزة وإنسانا عاشق لفنه، وهو أيضا مرب لأجيال تتلمذت على يده قواعد الفن وأصولها. للتذكير، فإنّ الفنان من مواليد سطيف سنة 1953، اهتم بالفن منذ طفولته ودخل عالم المعارض سنة 1977 بسطيف، تفرّغ للبحث واحتك بزملائه الفنانين، عمل أيضا أستاذا للتربية الفنية وفي سنة 1986 نظّم معارضه بجامعة "فرحات عباس" وبدار الثقافة والمتحف الوطني بسطيف ومتحف "الماما" وغيرها. كما له مشاركاته الوطنية والدولية بفرنسا، مصر، تونس ودول الخليج وتحصّل على عدة جوائز، منها جائزة مهرجان سوق أهراس وجائزة التميز والإبداع الدولية بمصر وأطر عدة ورشات بفرنسا.