أسهب الأستاذ عبد القادر بن دعماش في الحديث عن الذاكرة الثقافية الجزائرية وعن مختلف المراحل التي مرّ بها قطاع الثقافة، إضافة إلى استعراضه لمساره المهني والفني، وكذا حرصه على توثيق معالم هذه الثقافة بالمكتوب رغم ندرة الأرشيف حتى في المؤسسات الرسمية، وعلى رأسها وزارة الثقافة، وذلك عند نزوله مؤخرا ضيفا على منتدى "جسور مسرحية" في عدده السادس عشر بميدياتيك "منتوري"، حيث تناول العديد من القضايا والشؤون المتعلقة بالثقافة في بلادنا؛ باعتباره باحثا وصحفيا ومسؤولا تقلّد العديد من المناصب والمهام. بداية، تحدّث الضيف عن مشواره الفني الذي انطلق في الستينيات، خاصة عندما كان عازف أكرديون في فرقة الفنان جيلالي عين تادلس، وسجّل معه أسطوانته الوحيدة، ناهيك عن حضوره في المسرح، خاصة بمسقط رأسه بمستغانم. ولم يقتصر المشوار على الجانب الفني لوحده، بل تعداه إلى الإدارة التي رسخ فيها الضيف، وكانت له فيها تجارب كبيرة. وقد أشار قائلا: "تخرّجت من مركز تكوين إداري بوهران دفعة 1967 وكُرّمت على إثرها، ثم عُيّنت بالشلف، وحين تأسيس المدرسة العليا للإدارة سنة 1968 التحقت بها ودرست مع أسماء تولت مسؤوليات كبيرة في الدولة". ومن أهم الذكريات التي توقّف عندها بن دعماش علاقته بمهرجان مسرح الهواة بمستغانم الذي تأسّس سنة 1967 بفضل فنان عملاق، هو الراحل جيلالي بن عبد الحليم، والذي كان مقربا من المتحدّث، لذلك قال عنه: "كان إنسانا راقيا ولا مثيل له، وللأسف أُسقط من الذاكرة، رجل كان يعمل بإمكانياته، ويجمع ميزانية المهرجان من الدكاكين ومن الأهالي البسطاء، وكان ينظّم الفعالية بملعب بن سليمان ويدعو أكبر الشخصيات المسرحية للحضور وعلى رأسها مصطفى كاتب. وابتداء من سنة 1969 أصبح المهرجان دوليا، واستمر هذا التألّق إلى غاية سنة 1972، وعملت هيئة المهرجان على ألا يكون هذا المهرجان تحت السلطة المباشرة للدولة لضمان حرية الكلمة والمبادرة".باعتبار بن دعماش خرّيج المدرسة العليا للإدارة، فقد عُيّن بوزارة الداخلية، لكنّه رفضها وطلب التعيين بوزارة الثقافة، وظلّ يتردّد على مقهى طونطوفيل مع زملائه الفنانين ومنهم الراحل ولد عبد الرحمان كاكي، الذي نصحه بقطاع المسرح بدل الموسيقى؛ لأنّه مؤسسة رسمية قائمة بذاتها، وهكذا التحق بوزارة الثقافة، وأصبح مسؤولا عن النشاطات المسرحية وعن مجلة الوزارة، لكنه، في الحقيقة، كان يمكث بالمسرح الوطني أكثر من مكتبه بالوزارة، فأسّس المتحدّث مجلة "آمال" و"ألوان" و"ثقافة"، وحرص على أن يكون مقرها بدار عزيزة، حيث كان يلتقي كلّ الفنانين بمكتبه؛ مما أثار الحاقدين، لكن وزير الثقافة آنذاك الراحل عبد المجيد أمزيان، أنصفه وقال: "لم أر مسؤولا يأتيه الفنانون إلاّ أنت". تحدّث الضيف عن علاقته بعمالقة الفن والثقافة وذكرياته معهم، فذكر، مثلا، مصطفى كاتب، وهنا قال إنّ أحد وزراء الثقافة طلب منه (أي من بن دعماش) أن يحضر كاتبا ليتولى إدارة المسرح الوطني. وبعد مفاوضات ماراطونية تمكّن من إقناع الرجل. وتحدّث أيضا عن علاقته بكاتب ياسين المثقّف الذي وصفه بالنزيه، والذي عرفه في باريس؛ إذ كان يقصده ليدعوه إلى تنظيم محاضرات بالجزائر، منها استضافته بالمهرجان الوطني للمسرح المحترف في طبعته الأولى، الذي قال بن دعماش: "أسّسناه من الهواء" في 26 ديسمبر 1985، وفيه قدّم كاتب ياسين محاضرة عن "اللغة المسرحية"، علما أنّ الكثيرين حذّروا من استقدام هذه الشخصية المشاكسة، ثم راح الضيف يروي علاقته بكاتب ياسين من خلال التردّد عليه ببلعباس وبالإقامة الأسرية ببن عكنون، وكيف كانت حياته بسيطة وزهيدة، لكنه كان قويا بمواقفه إلى درجة أنّ فناني بلعباس كانوا أقوياء به. علاقة أخرى لا تقل متانة، جمعته بالراحل علولة الذي استضافه بمسرحيته "الأجواد" سنة 1985 بمهرجان المسرح المحترف، والتي صفّق لها الجمهور نصف ساعة كاملة، وحصدت كلّ الجوائز، وكانت تلك هي انطلاقتها نحو الشهرة. بعدها جاءت الطبعة الثانية، وتوقّفت سنة 1987 لنقص الميزانية، ثم استؤنفت في 1988 بإمكانيات ذاتية وبمساهمة المسارح الجهوية. وبالمناسبة، ثمّن الضيف تلك المجلات التي كانت تصدر عن الوزارة وعن المسرح، وعلى رأسها "الستار"، والتي هي اليوم أهم وثيقة تاريخية، وكذا "الرسالة المسرحية والكوريغرافية" التي يكتب فيها عمالقة الفنانين والنقاد. وتأسف السيد بن دعماش لغياب هذا الأرشيف بالمؤسسات الثقافية ومنها وزارة الثقافة نفسها، علما أنه أنقذ الكثير منه بجهده الشخصي إلى درجة أنه كان يصور بنفسه بعض الفعاليات وهو يواصل جهوده لحفظ هذه الذاكرة كمهمة أولى؛ لذلك أنجز كتابا عن "فرقة التحرير"، واستغرق ذلك سنوات؛ حيث بدأ المشروع سنة 1984 حين استضاف العقيد سنوسي أعضاء الفرقة بمناسبة افتتاح رياض الفتح ورغم نقص الأرشيف. وعرّج الضيف على علاقته الحميمة بالراحل بن قطاف، وذلك إلى غاية وفاته. وقد أهداه في أيامه الأخيرة نسخة من عرض "عقد الجوهرة" التي شارك فيها الراحل، وهو أضخم عرض مسرحي في تاريخ الجزائر اقترحه وزير الثقافة الأسبق بوعلام بسايح. وكان بن قطاف يقول: "اُعطوا مفتاح المسرح لبن دعماش ليدخل متى يشاء". وذكر بن دعماش أيضا الراحل أبو بكر بلقايد وزير الثقافة الذي تجاوب معه في الوزارة، وتقبّل فكرة بن دعماش بردّ الاعتبار لرواد المسرح الجزائري، وعلى رأسهم بشطارزي؛ لذلك أطلق اسمه على المسرح الوطني.