يحكى أن مدينة ساحرة تبعد بأكثر من 1200 عن الجزائر العاصمة نحو الجنوب، كانت تسمى "تمنغست" عاصمة الأهقار، جعل الله منها تحفة فنية كأنها لوحة زيتية اعتمد فيها فنانها الألوان الترابية، مدينة تغمرك بأحاسيس مختلفة يصعب أن تجدها في دولة أخرى مهما حاولت التجول حول العالم، بفضل ميزتها الصحراوية. ليس ذلك فقط، فمزيجها بين صحاريها وسكانها الذين يتميزون بالطيبة، جعل منها مقصد السياح من كل أصقاع الأرض، تحتوي على مناظر خلابة تذهب بالألباب، بها أعلى قمة جبلية في الجزائر، قمة تاهات أتاكور 3000م تحتوي العجائب، إلى جانب برك صغيرة تعيش فيها أصناف من الأسماك وحيوان الأيل الجبلي الصحراوي المهدد بالانقراض، وكهوف عجيبة خلف فيها رجال العصور الوسطى، رسوما تحكي لنا قصة من قصص ألف ليلة وليلة، تتمتعون في هذا الروبورتاج بتجربة ساحرة فعلا تحبس الأنفاس. طبيعتها تحبس لها الأنفاس ...تمنراست.. وجهة واحدة وتجارب سياحية بالجملة في رحلة نظمتها وكالات سياحية بمنطقة تمنراست، شاركت فيها وكالات سياحية من الشمال، حاول هؤلاء العمل جنبا إلى جنب من أجل إخراج السياحة الصحراوية من عنق الزجاجة وإعادة تنشيطها وتثمين مخزونها الحضاري والطبيعي الذي يجعل منها منتوجا سياحيا قائما بذاته وقادرا على استقطاب فئة هامة من السياح، هذه المبادرة التي تهدف إلى جعل تكاليف الرحلة آخر اهتمامات السائح، حتى تكون في حدود ميزانيته وغير مكلفة. دفع السياحة الصحراوية وتجاوز الإشكاليات التي تعترض المهنيين من وكالات سياحية وديوان السياحة وغيرها، هو الهدف الأساسي وراء اختيار مدينة تمنراست فضاء للاحتفال بافتتاح الموسم السياحي الصحراوي، حيث تم التأكيد على ضرورة تنشيط الحركة الجوية باتجاه مطار تلك المدينة والمزيد من الترويج للسياحة الصحراوية في السوق الداخلية وكذا الخارجية. وجهة لم يخترها المهنيون صدفة للترويج للسياحة، وإنما تم اختيارها بعناية حتى تستعيد الاعتبار الذي تستحقه، حيث بإمكان سحرها أن يجذب السائح إليها بكل سهولة، عليها فقط إظهار جمالها ومعالم روعتها التي يشاع عنها أن كل من يزورها سيرغب في زيارتها مرات أخرى لاكتشاف المزيد عنها وما تخفيه بين كثبانها وصخورها من أسرار. في جولة سياحية قادت "المساء" إلى المدينة، بدا استمتاعنا بالسفر من مطار اقنار، جولة مليئة بالمتعة والحماس لاكتشاف أحد أجمل المواقع السياحية في بلادنا، رفقة مجموعة من الأفراد كانوا في بداية الرحلة مجرد غرباء، تجمعنا علاقات يطبعها "بروتوكول" الحديث، لم يكن في علم أحد أن العلاقات سوف تتحول إلى صداقة فور مشاطرة أوقات جميلة في تلك المدينة المميزة بسحرها وديكورها الذي لا يمكن تأمله في ركن آخر من العالم. انطلقنا على السادسة مساء من مطار هواري بومدين، في رحلة إلى مدينة تمنراست دامت ساعتين وعشر دقائق، استقبلتنا بعدها في مطار اقنار سيارة من نوع تويوتا رباعية الدفع، اختارها جنود الصحراء لتحدي صعاب طريق تتخللها جبال وصخور وكثبان رملية..، انطلقنا في رحلة كنا نجهل بعدها وكأن الدليل السياحي أراد أن يجعلها مفاجأة لنا، لم يحدد لنا الرجل الترقي بعد المسافة واكتفى بالقول؛ سندخل الصحراء مباشرة، الرحلة سوف تكون ممتعة، وحقيقة صدق حديثه عن المتعة إلا أن الطريق بدا أبعد مما كنا نتخيله، ففي طريق أدهشنا الدليل السياحي كيف تمكن رغم عتمة الليل من تحديد مساره، وتابع سيره بخطوات مدروسة ودقيقة، رغم الجبال المتشابهة والكثبان الرملية التي تغطي الطريق، ليكشف لنا بعد الإلحاح على السؤال أنه كان يعتمد على النجوم حتى لا يضل الطريق. بعد ساعة كاملة من السير، تمكنا من إيجاد وفد آخر ومن هنا تحمس الجميع للانطلاق في المغامرة الحقيقية في قلب الصحراء. كان الجميع مرهق بسبب الطريق، وزع علينا المرافقون السياحيون خيمات وأغطية وحقائب للنوم، ثبت كل واحد خيمته تحت ضوء القمر وسماء متلألئة بالنجوم التي كانت وحدها تنير تلك الليلة، هناك من فضل النوم للراحة وهناك من فضل الاستمتاع بهدوء تلك الليلة والتأمل في سمائها وعيش مغامرة لم يسبق له أن عاشها في سفر من قبل. كانت الساعة السابعة صباحا عندما رن منبه سيارات الدرك الوطني الذي رافقنا طيلة الرحلة لضمان راحتنا وسلامتنا، استفاق الجميع رغم الساعات القليلة من النوم، لكن الكل كان يبدو في كامل نشاطه للانطلاق في مغامرة وسط الصحراء، هواء عليل كان يميز ذلك الصباح، درجة حرارة كانت تبلغ حوالي 8 درجات، ترحاب أهل الولاية من الطوارق كان حارا، كرم وضيافة بدأت من الشاي الصحراوي الذي وزع على الوفد صباحا، إحساس ينتابك وكأنك ملك تتلقى معاملة مميزة. انطلقت سيارات رباعية الدفع واحدة تلو الأخرى، ترافق الركب سيارات الدرك الوطني، وبدا تجولنا وسط المسرح الصحراوي الذي يتميز بديكور مميز، متحف خلفته قدرة الله بعد آلاف السنين من التأثيرات الجوية، ترسبات صخرية وكثبان رملية متحركة، مزج بين الحضارة والطبيعة الخلابة، ديكور بقي وفيا لماضيه العريق، صخور لم تتأثر بتحضر الإنسان، وإنما بقيت على حالها تحاكي السحاب بشموخها، أماكن فتحت لزوارها صفحاتها كالكتاب لتروي له مرور الإنسان منها قبل آلاف السنين، وأخرى تجعلك فقط تقف أمامها مندهشا تسبح الخالق لجمالها وروعتها وتتساءل؛ يا ترى كيف تكونت تلك السلاسل الجبلية الضخمة التي يقف الإنسان أمامها عاجزا؟ قد تدهشك شساعة الصحراء، تمنحك الشعور القوي، مضادات قد تسجل حضورها في نفسيتك في آن واحد، شعور بالراحة والسكينة والأمان، وشعور آخر بالخوف والعزلة تلك السكينة يخلقها الهدوء، إذ يمكنك اجتياز مئات الكيلومترات دون مشاهدة إنسان واحد خارج الوفد، ليس ذلك فقط، فقد لا يصادفك أي كائن آخر كحيوان، ليعمك تارة أخرى إحساس بالخوف الناجم عن شساعة المكان والخوف من الضياع وعدم إيجاد الطريق، فكل الأماكن تبدو للزائر البسيط متشابهة لتتبادر إلى ذهنك العديد من الأسئلة، أكثرها "أين نحن؟"، أو أي طريق سنسلك؟" وهل سنضيع؟ أسئلة يطمئنك مرشدنا السياحي الذي له خبرة تساوي عمره بالتقريب، الأمر الذي سرعان ما يحول خوفك إلى الشعور بالراحة والطمأنينة، وما عليك فقط القيام به هو التقيد بالتعليمات والاستمتاع بالرحلة. بدا اليوم جد طويل ذلك نظرا للبرنامج الثري الذي برمجته الوكالات السياحية من المنطقة المشاركة في هذه المبادرة، فقد تكفلت الوكالات بإشراكنا في برنامج يضم زيارة العديد من الأماكن قبل الوصول إلى منطقة طاسيلي، الأهقار المشهورة في جنوب بلدنا الجميل. بعد يوم كامل من التنقل بين منطقة وأخرى، لا يمكن تفويت فرصة أخذ صور تذكارية مع صخرة وأخرى، كل واحد اختار خلفية معينة، فهناك من فضل الاستلقاء على الكثبان الرملية، أو الصعود فوق جبال من ترسبات الصخور، أو التقاط صورة أمام جبل ضخم تحمله صخرة أصغر حجم وما إلى ذلك من المناظر التي تحبس الأنفاس. بعدها دخلنا منطقة "الطاسيلي" التي تحمسنا لمشاهدتها، فكثيرا ما سمعنا عنها، شهرتها تجعل الفرد ينتظر مشاهدتها بفارغ الصبر فالهقار أو الأهقار هي سلسلة جبلية طبيعتها بركانية تقع في أقصى الجنوب الشرقي للجزائر في ولاية تمنراست، تغطي مساحة 450.000 كم2 أي ربع المساحة الإجمالية للجزائر، وهي منطقة معروفة عالميا بمناظرها الخلابة وسحرها الجذاب. في جبال الهقار توجد أحد أعلى القمم الجزائرية، وهي قمة تاهات أتاكور بارتفاع يبلغ 3013 م. كما يوجد بها أحد أجمل الممرات في العالم، وهو ممر الأسكرام الذي يمكن منه مشاهدة أجمل شروق وغروب للشمس في الجزائر، والمعترف به من اليونيسكو. قرر الوفد التخييم في تلك الليلة في أحضان منطقة من مناطق الطاسيلي الهقار، في مغامرة يسميها سكان الصحراء "بيفواك"، أي المبيت في معسكر مؤقت في العراء، داخل خيمات بسيطة، تميزت تلك الليلة بتحضير عشاء تقليدي امتزجت فيها رائحة الجمر برائحة الطعام وزادها جمالا منظر القمر المكتمل والنجوم التي تبدو كأنها في متناول ترغب في التقاطها.. يتميز الرجل الترقي بتوليه مهام الطبخ وإعداد الشاي، حيث تفنن هؤلاء في تحضير عشاء متنوع من اللحم المطهي تحت الرمال يغطيها الجمر والخشب الجاف لأغصان بعض الشجيرات، تطلب طهيه ساعات طويلة إذ أشرف الرجال على تحضيره من الساعة الثالثة مساء إلى غاية ساعات متأخرة من الليل، لتكون النتيجة لحم خروف في غاية الطراوة واللذة تميزه رائحة الجمر، قد تتذوق حبات من الرمل الملتصقة به أثناء الطهي، تزيدها لذة تلك البهارات الحارة الصحراوية التي تجعل رائحة ذلك اللحم تنتشر على بعد أمتار عديدة. فبعد تناول وجبة العشاء أعد لنا الرجل الترقي خيمة خاصة للنوم، يستضيفك قبلها إلى تناول فناجين من الشاي المحضر على الجمر، والذي يحتفظ هو الآخر بسر آخر، فالفنجان الأول طعمه مر ومركز أما الثاني فمعتدل، والأخير حلو ومخفف، وكل فنجان يعبر عن حالة الرجل الترقي وسط بيئته الصحراوية المميزة والمتقلبة بين مصاعب الصحراء ووعورتها، وبين راحة البال وصفائه لدى اختلائه بنفسه في تلك الأرض.