شهدت أشهر الساحات المعروفة بعرض الكتب القديمة بالعاصمة في المدة الأخيرة، إقبالا كبيرا من قبل المولعين ب "خير جليس"، لا سيما في ظل إغلاق العديد من المكتبات بولاية الجزائر بسبب الحجر الصحي وفقا لتدابير الوقاية، لمنع تفش أكثر لكوفيد 19؛ إذ بقيت ساحة البريد المركزي البديل المنشود للبحث عن "أيقونة مفقودة". وزائر هذا الفضاء الذي تجدد الموعد معه، يلاحظ أن الكتب القديمة مازالت تستهوي الكثير من الأشخاص على اختلاف أعمارهم ومراكزهم الاجتماعية. وبعد اختفاء معرض الهواء الطلق خلال المرحلة الأولى من جائحة كورونا والتي فرضت على الجميع توقيف النشاط "غير الضروري"، عاد اليوم إلى الواجهة بعد تخفيف إجراءات الحجر الصحي، ليعود جامعو "التحف القديمة" من رفوف المكتبات، للظهور بعد أن ألفهم المارة على مر السنوات في نفس المكان، يزاولون بيع الكتب القديمة، ونجحوا بذلك في استمالة عشاق المطالعة وحتى الطلاب والجامعيين، الباحثين عن كتب خارجية بأسعار بسيطة. ولاتزال تلك الساحة المكان المثالي لاقتناء الكتب القديمة والأصلية النادرة بأسعار معقولة؛ حيث تحولت الساحة المحاذية للبريد المركزي إلى مكتبة كبيرة في الهواء الطلق، تعرض كتبا في تخصصات متنوعة، بعضها لكبار المؤلفين؛ من أدباء وفلاسفة ومؤرخين معروفين عبر العالم، تَخلص منها البعض بعد مطالعتها والانتهاء منها. كما أن البعض تخلى عنها، فقط لأنها تأخذ مساحة كبيرة في بيته الضيق. وكتب أخرى لأبناء تخلوا عن مراجع آبائهم، الذين ربما احتفظوا بتلك الكتب لسنوات طويلة. ولم يجد البعض من جيل اليوم الذي لم يعد يهتم بالمطالعة، ما يفعل بتلك الكتب إلا بالتخلي عنها. وما يتخلى عنه البعض قد يشكل عند البعض الآخر كنزا حقيقيا؛ فالشيء الجميل أن هذه المكتبات التي لها مثيل في مختلف دول العالم حتى أكثرها تطورا، تشهد إقبالا متزايدا من عشاق المطالعة والمهتمين بالكتاب؛ من إطارات ومديرين وبعض السياسيين، وحتى من البرلمانيين، الذين وجدوا ضالتهم في هذه المكتبات الحرة، التي يجدون فيها الكنز الثمين، الذي يتجسد بعضه في كتب أصلية ونادرة. كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد الزوال حين توجهت "المساء" إلى ساحة البريد المركزي المتواجدة بوسط العاصمة أو القلب النابض للعاصمة؛ حيث تقربنا من بعض الباعة هناك، والذين بعد سنوات خبرة في المجال، تخصص كل واحد منهم في مجالات محددة؛ إذ يمكن الزبونَ أن يتوجه إلى بائع محدد للبحث عما يريد؛ سواء روايات، أو كتب تعلّم اللغات، أو كتب تاريخية، أو حتى نسخ حقيقية من الأرشيف النادر لتاريخ معيّن أو لدولة محددة، وهو ما يُشعر زائر هذا الفضاء بجماليات فن البيع والثقافة الجميلة؛ فهناك لا يهم عاشق الكتاب إن كان غلافه مترهلا أو قديما أو متسخا وممزقا، بل ما يهمه هو ما يحتويه ذات الكتاب من معلومات قيّمة، إلى جانب سعر قد يراعي ميزانيته الصغيرة. اقتربنا من أحد الباعة من مواليد 1942 بالقصبة، ومن القدامى بين زملائه، ويتفنن في بيع الكتب القديمة. تَوجُّهه إلى هذه المهنة لم يأت من فراغ، وإنما كانت تجمعه علاقة حميمة بالكتاب منذ سنوات عديدة. حُبِّبت إليه كثرة المطالعة، ومختلف الكتب، غير أنه وجد نفسه بعد التقاعد يعيش في فراغ كبير؛ مما دفعه إلى التفكير في بيع كتبه القديمة لاقتناء أخرى جديدة؛ متاجرا في الكتب المستعمَلة. وهدفه من ذلك جني بعض الأموال، إلى جانب عمله على تعزيز علاقته بخير جليس، ودعوة من لديهم نفس الهوس بالكتاب، إلى اقتنائه بأسعار معقولة، مشيرا: "رغم جمال الكتاب الجديد والرائحة الطيبة للورق التي لا يعرفها إلا عاشق المطالعة، إلا أنَّ للكتاب القديم والذي اصفرّت أوراقه من شدة تصفّحه أو بعدما لامسته رطوبة الجو أو الأيادي التي حملته في ليال طويلة لقراءته، روعةً في حد ذاتها، لا يمكن أن يفهمها إلا جليس الكتاب".