قرر الرئيس الفرنسي، ايمانويل ماكرون، بشكل مفاجئ عدم حضور قمة كان من المنتظر أن تجمعه يوم غد، بقادة دول الساحل الخمس على مدار يومين بالعاصمة التشادية، نجامينا لبحث الموقف العسكري في هذه المنطقة والأليات التي تسمح بتحييد تنامي الخطر الذي أصبحت تشكله عناصر تنظيمات إرهابية ناشطة في أقاليم هذه الدول. وكان مقررا حضور الرئيس ماكرون إلى هذه القمة، تكملة لمسار قمة مدينة "بو" بداية العام الماضي مرفوقا بعدد من المسؤولين العسكريين السامين كون القمة مخصصة بالدرجة الأولى لبحث مستقبل قوة "بارخان" في هذه المنطقة الساخنة. ولم تجد الرئاسة الفرنسية من ذريعة لتبرير هذا الغياب سوى القول إن الرئيس ماكرون أراد من وراء قراره الامتثال للإجراءات الاحترازية التي فرضتها جائحة كورونا ومنها منع السفر المفروض على المواطنين الفرنسيين. وقال بعض معاونيه لإذاعة فرنسا الدولية "إن الرئيس أخضع نفسه لنفس القيد على التنقلات وطبقه على وزرائه" مثلهم مثل المواطنين الفرنسيين في إطار مكافحة تفشي وباء كورونا الذي فرض إغلاق حدود البلاد. وأضافت الإذاعة الفرنسية أن "لا جان إيف لودريان رئيس الدبلوماسية الفرنسية ولا فلورونس بارلي وزيرة الجيوش سيكونان حاضرين في نجامينا" وأن الرئيس سيتابع الأشغال عبر تقنية الفيديو. ولا يجد مثل هذا المبرر مصداقيته إذا علمنا أن مسؤولين فرنسيين سامين سبق وأن زاروا المنطقة في أوج أزمة كورونا كانت آخرها زيارة وزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي التي زارت مالي شهر نوفمبر الماضي. وأيضا رئيس أركان الجيوش الفرنسية فرانسوا لوكوانتر الذي قضى أعياد نهاية العام مع جنود بلاده في القاعدة الفرنسية بالعاصمة التشادية، نجامينا التي تحتضن القمة الفرنسية دول الساحل. وهو ما يدفع إلى القول أن متاعب الجنود الفرنسيين ضمن قوة "بارخان" وفشلهم في مقارعة العمليات المسلحة لعناصر التنظيمات الإرهابية الناشطة في دول الساحل وكذا تعالي الأصوات المنتقدة لها داخل هذه الدول كما في فرنسا، تكون هي السبب المباشر لإلغاء هذه السفرية التي كانت مبرمجة منذ مدة وحتى قبل بدء التلقيحات ضد وباء "كوفيد 19". وهي كلها عوامل اجتمعت لتزيد في قناعة الرئيس الفرنسي بعدم التوجه إلى تشاد والاكتفاء بمشاركة رمزية من وراء جدران مكتبه بقصر الإليزي ضمن تصرف سيزيد في تثبيط عزيمة قواته وزرع الشك في اعلى قمة سلط دول الساحل التي راهنت على الدور الفرنسي لاستعادة الأمن المفقود في بلدانها منذ سنة 2012. ووجد الرئيس الفرنسي بعد مرور ثماني سنوات منذ إطلاق عملية "بارخان" بعد عملية "سيرفال" الفاشلة، نفسه في مأزق الإرث الثقيل الذي تركه له الرئيسان نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند مما جعله يحاول في كل الاتجاهات لإخراجه من هذا المستنقع وراح يبحث تارة عن دعم أوروبي عبر قوة "تاكوبا" التي أثبتت محدوديتها هي الأخرى وتارة أخرى الاستنجاد بالإدارة الأمريكية الجديدة علها تعدل عن قرار سابقتها التي رفضت بشكل قطعي تمويل القوات الفرنسية عبر صندوق الأممالمتحدة أو تقديم دعم لوجيستي لها إلا من خلال المعلومات الاستخباراتية التي توفرها الطائرات المسيرة التجسسية. وتؤكد آخر تطورات المشهد الميداني وتوالي العمليات العسكرية ضد الجنود الفرنسيين، أن الرئيس ماكرون بدا ينظر إلى واقع الحال في الساحل وكأنه تكرار للمستنقع الذي وجدت وحدات المارينز الأمريكية نفسها فيه في أفغانستان وتعالي أصوات الأمريكيين حينها مطالبين بسحبها بعد أن سئموا رؤية نعوش ابنائهم وهي تصل تباعا إلى المطارات العسكرية الأمريكية. وهو مشهد بدأت فصوله تتكرر مع قوة "بارخان" التي فقدت 50 من جنودها في هجمات مسلحة دامية تصاعدت وثيرتها في الفترة الأخيرة خاصة بمنطقة الحدود الثلاثة التي تضم كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو وهو ما زاد في قناعة الرئيس الفرنسي بالتخلص منها اليوم قبل غد للمحافظة على ما تبقى من شعبيته التي انهارت على مدار السنتين الماضيتين بسبب احتجاجات السترات الصفراء وتهاوي الاقتصاد الفرنسي قبل أن تأتي جائحة "كوفيد 19" لتزيدها انهيارا أكبر بسبب الطريقة الكارثية التي تعاملت بها حكومته مع الوباء وتواصلت مع حملة التلقيح التي باشرتها. كما أن للحسابات السياسية دور في قرار الرئيس ماكرون المفاجئ وهو الذي صوبه نظره إلى المستنقع المالي ولكنه أبقى على زاوية أكبر باتجاه قصر الإليزي تحسبا للانتخابات الرئاسية شهر ماي من العام القادم والتي لم يخف طموحه في شغل كرسيه لعهدة ثانية. فقد ككانت كل تلك العوامل وحملة التلقيح والانتقادات التي طالتها ضربة موجعة أخرى لصورة رئيس فرنسي توالت عليه الانتكاسات السياسية بما يفسر لجوءه إلى عرين اليمين المتطرف بإصداره قانون ظاهره محاصرة التطرف الديني وباطنه التضييق على الجالية المسلمة ضمن وسيلة إغواء القى بها في معترك اليمين لكسب أصواته في وقت تشهد فيه شعبية منافسته اليمنية المتطرفة مارين لوبان تزايدا مستمرا وهو ما قد يخلط عليه كل حساباته الداخلية والدولية وتجعله يغادر الرئاسة الفرنسية بعد عام من الآن بخفى حنين.