تعجّ الساحات العمومية ومقاهي العاصمة بفئة الشيوخ، وذلك أهم عنوان لحقيقة مفادها أن مثل هذه الأماكن هي تقريبا مصير كل متقاعد، وكأن المنطق في مجتمعنا بات يقول أن التقاعد والفراغ أمران لا يفترقان!·· والملفت أيضا في المسألة هو شكوى عدة سيدات من حشرية أزواجهن المتقاعدين· إن ظاهرة الفراغ التي يعاني منها معظم المتقاعدين تدفع للتساؤل عمّا إذا كان دور الإنسان ينتهي بوصوله سن الستين وبمعنى آخر أليس المجتمع بحاجة إلى هذه الفئة التي تعد ثمرة لخبرة طويلة؟··هي أسئلة يفرضها واقع المتقاعدين الذين يجدون أنفسهم على موعد مع الإنطوائية والفراغ بدل الإستفادة من خبراتهم في مختلف المجالات لخدمة الوطن· إنّ الحديث مع بعض المتقاعدين بخصوص واقع حياتهم بعد التقاعد كشف أن المعاناة من الضائقة المالية، العصبية، الإهتمام بشؤون البيت والشعور بالوحدة جرّاء الإبتعاد عن الأصدقاء، فضلا عن الإدمان على برامج التلفزيون هي أهم أعراض الحياة بعد التقاعد· وفي هذا الشأن تقول السيدة (ح·س) موظفة أن والدها رغم كفاءته العالية في مجالس المحاسبة، إلا أن التقاعد حوله إلى شخص غير منتج·· لقد وجد نفسه في دائرة من الفراغ رغم أنه ما يزال قادرا على العطاء الذي يعد نتاج سنين عمله الطويلة· أما آمال، فتاة عاملة، فترى أن التعليق على كل كبيرة وصغيرة ومراقبة كل ما يدور في المنزل والشارع وكثرة الكلام الناجمة عن الإهتمام بأدق التفاصيل، هي أهمّ المميزات التي تطبع عالم المتقاعدين الذين احتكت بهم في محيطها·· ويضاف إلى كل هذا العصبية التي تميز معظم ردود أفعالهم· ومن جهتها تؤكد (ن/أ) فتاة مثقفة بأنها لمست تغييرا كبيرا في شخصية والدها المتقاعد، فبعد أن كان شخصا هادئا وغير مكترث بما يدور في المنزل، تحوّل إلى مراقب لكل تصرفات أفراد العائلة·· يوبّخ هذا يلوم ذاك ويتدخل في شؤون المطبخ كذلك· وتستطرد: "كان من الصعب علينا أن نتقبل هذا التغيير في البداية، لكن شيئا فشيئا تأقلمنا مع التحول الذي طرأ عليه والذي ليس سوى رد فعل من شخص يبحث عن كينونته في المجتمع فلم يجدها"·وتشكو عدة سيدات في هذا الصدد من صفة الحشرية التي أصبحت تنغص حياتهن بعد تقاعد أزواجهن، حيث أن وجود الزوج المتقاعد في البيت بصفة دائمة يجعله عرضة للتصادم والخلاف مع الزوجة والأبناء بسبب اهتمامه بصغائر الأمور ومحاولته فرض السّيطرة داخل المنزل· ويتفق المستجوبون على أن اللّوم لا يقع بالضرورة على المتقاعدين بقدر ما يقع على الظروف التي تضطرهم للمكوث في البيت أوالأماكن العمومية· ولذلك لابد من الإهتمام بهذه الفئة بإيجاد ما يشغلها أو إنشاء نواد يمارس فيها المتقاعدون مختلف النشاطات أو الهوايات· والأهم من ذلك هو أن يكون النادي فضاء للإستفادة من خبرات هؤلاء المتقاعدين للمساهمة في صقل خبرات الجيل الحالي· حالة تعويضيّة ويرى المختصون في علم الإجتماع أنّ انقطاع الشخص عن عمله يُحدث بلا شك تغييرات في أدواره الإجتماعية تؤثر عليه، خاصة إذا شعر بأنه فقد أهميته في المجتمع، ذلك لأن التقاعد يكون مصحوبا بعدة آثار إجتماعية منها العزلة وضعف العلاقات الإجتماعية وانخفاض الدخل الشهري وكثرة التدخل في شؤون الأسرة· وإضافة إلى ذلك فإن المتقاعد يصاب غالبا بالإحباط لأنه يرفض الإستسلام للواقع الجديد الذي حكم على حياته بالفراغ، ما يدفعه للقيام بتصرفات مبهمة أو الإهتمام بتفاصيل لم تكن تشكّل محور اهتمامه من قبل، حيث أنها تمثل حالة تعويضية عن دوره خارج البيت· إضطرابات نفسيّة يسبّبها الملل ويوضّح المختصون في علم النفس أنّ التقاعد يمثل للغالبية من الناس مرحلة كئيبة يملؤها الألم والمرارة، وهي تمثل للبعض الآخر من الناس تيّارا جارفا نحو سلسلة متصلة من الأزمات الصحية والنفسية، ذلك أنّ الطاقة التي كان يبذلها المتقاعد تتعطل ولا تجد مخرجا لها· وهو ما يؤدي إلى اضطرابات نفسية وعصبية وعاطفية لأن أفعاله تصبح مملّة ومكررة، فتُشعره بعدم جدوى وجوده· لذا يتعين على المتقاعد أن يحاول ملء الفراغ من خلال إيجاد أنشطة مختلفة سواء داخل المنزل أو خارجه وممارسة أنشطة بدنية وهوايات والبحث عن اهتمامات جديدة تخرجه من الروتين والملل·