تُوّج الملتقى الدولي "المقاومة الثقافية خلال الثورة التحريرية، نضال من أجل التحرر"، بجملة من التوصيات، أهمها الدعوة إلى إنجاز معجم يعرّف بأصدقاء الثورة التحريرية المظفرة، وكل من كانت لهم مواقف داعمة لحق الشعب الجزائري في الحرية آنذاك، فضلا عن تنظيم مسابقة وطنية في موضوع المقاومة الثقافية، مع اقتراح أن يتناول الملتقى في السنة القادمة، موضوع "أدب ما بعد الكولونيالية في الجزائر". ومن بين المخرجات التي أسفر عنها الملتقى، الحرص على مواصلة تنظيم الملتقى بشكل دوري كل سنة، وطبع محاضرات الملتقى ورقيا وإلكترونيا، مع توزيع المطبوعات داخل وخارج الجزائر؛ قصد تثمين مشاركات الأساتذة، وتعميم الفائدة على كل المهتمين بموضوع المقاومة الثقافية في الجزائر، علاوة على توسيع المشاركة العربية والأجنبية التي ساهمت في خدمة الثورة الجزائرية. وشهد اليوم الأخير من الملتقى تقديم العديد من المداخلات، موزّعة على جلستين علميتين. ففي محاضرته المعنونة ب"تمثيل ثورة التحرير في نماذج من الرواية الجزائرية الحديثة، قراءة ثقافية"، أوضح الدكتور محمد عبيد الله (عميد كلية الآداب بجامعة فيلاديلفيا من عمانالأردن)، أن الثورة الجزائرية والأدب المرتبط بها، يظلّ أدبا خالدا، ومدرسة من مدارس التحرر والنضال. وأضاف أن في الرواية إطلالة بديعة على الحرب النفسية، أضاءها المؤلفون، ليبقى للرواية القدرة على العبور إلى مساحات لا يمكن التاريخَ عبورُها. أما عالِم الاجتماع لوسيك غوران من صربيا، فتناول "الصحفيون بيوغوسلافيا وثورة الجزائر". وأشار إلى العلاقات التاريخية والسياسية التي كانت تربط الجزائر ويوغسلافيا خلال الثورة التحريرية، حيث كانت يوغسلافيا من الدول الأوروبية القليلة التي دعمت قضية الجزائريين، وأدانت الهمجية الاستعمارية الفرنسية، متوقفا عند الدعم الذي قدّمه المصور والصحفي ستيفان لابودوفيتش، وكذا زدرافكو بيتشر، وزوجته فيدا زاغوراش. وتطرق لوسيتش، في هذا السياق، لمسار لابودوفيتش (1926- 2017)، الذي حل بالجزائر في 1959، وبقي بها ثلاث سنوات، مخلدا بعدسته، محطات من النضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، وأبرز لحظات الثورة التحريرية. كما تحدّث عن مسار الصحفي زدرافكو بيتشر، الذي كان مراسلا من إفريقيا لأكبر الجرائد اليوغوسلافية، وزوجته فيدا زاغوراش، التي اشتغلت كمكلفة بالثقافة في سفارة يوغسلافيا بتونس، وكلاهما "ساهم في التعريف بعدالة الثورة الجزائرية"، التي اعتبراها "واحدة من أعظم ثورات القرن العشرين". "مرونة الذاكرة الثقافية في سرد القصص" هو ما تطرق له الدكتور، بجامعة وهران، لخضر بركة سيدي محمد، وقال إنّ الثورة الجزائرية بها العديد من صور الصمود، "وحان الوقت لتسليط الضوء عليها، وإعطاء أهمية لبعضها؛ فمن المهم نقل أحداث متجذرة في الذاكرة الجزائرية"، ممثلا بروافد فنية وأسماء إبداعية شاركت في النضال، ورفعت الوعي لتشكيل هوية ثقافية تبنت الفكر الثوري، لتتوقف الدكتورة حياة أم السعد من جامعة الجزائر، عند "أدب الرسائل وقضية التعذيب، قراءة في رسائل شارلوت ديلبو". وأوضحت أن دلبو جمعت 151 رسالة تشكل عودة إلى نظرة الآخر إلى القضية الجزائرية، مشيرة إلى أنّ دلبو جمعت العديد من المقالات المنشورة في الصحف الفرنسية المؤمنة بعدالة القضية الجزائرية، ووجهتها لديغول والجمعية الوطنية؛ بهدف التوعية بضرورة عدم السكوت عن فظاعة الاستعمار، مستدلة بشهادات المجندين الفرنسيين الهاربين من الخدمة الذين صدمتهم همجية الآلة الاستعمارية. ومن جهته، قال مدير المركز النيجيري للبحوث العربية الباحث الخضر عبد الباقي محمد، إن "الثورة الجزائرية شكلت "نموذجا فريدا من نوعه، وملهما للشعوب والمجتمعات المعاصرة". وأوضح في مداخلة عنوانها "دور التمثلات الثقافية في الوعي الجمعي الجزائري للمقاومة"، أن هذه الثورة تحوز "نماذج ومقاربات معرفية عدة، تتطلب وقفات متأنية للدرس والتحليل، منها المقاربة الثقافية في مواجهة الاحتلال الفرنسي، الذي حاول طمس الهوية الوطنية الجزائرية وثوابتها". وأكد المحاضر أن "ثقافة المقاومة لدى الإنسان الجزائري جزء أصيل من ثقافته، بل هي جزء من الحياة، وعنصر جوهري من عناصر تشكيل شخصيته في مجابهته المشروع الاستعماري الكولونيالي، الذي حاول المساس بقيمه، وذاكرته، وعناصره الثقافية"، مبرزا توظيف "الثقافة بكل تمظهراتها كأداة ناجعة للتصدي للاحتلال الفرنسي، ولمقاومة وجوده ماديا ومعنويا". وأضاف: "جهود التعبئة الفكرية والثقافية المستمرة والنشيطة في الجزائر خلال فترة الاحتلال الفرنسي والتي حمل لواءها نخبة من المثقفين، كانت مرافقة وداعمة للمقاومة العسكرية الميدانية المسلحة". وتطرق الباحث، من جهة أخرى، لأهم ملامح التمثلات الثقافية المخزنة في الذاكرة الجماعية الجزائرية، والتي تتجلى من خلال الرواية، والقصة، والأنشودة، والشعر، وغيرها من مظاهر الممارسة الثقافية، مسلطا الضوء على دورها في تعبئة وشحذ همم الشعب الجزائري في مقاومته الاحتلال الفرنسي. وفيما قدّم الأستاذ بجامعة تلمسان الدكتور محمد زمري "الأبعاد الدلالية للأناشيد الجزائرية إبان ثورة التحرير"، استعرض الدكتور عبد القادر نطور من جامعة سكيكدة، موضوع "الأغنية الشعبية في الثورة التحريرية". ومن أكاديمية الفنون بمصر قدّم الأستاذ سيد ضيف الله "تمثلات الذات المناضلة في مذكرات سمير أمين وسيرته الفكرية". كما قدّم الدكتور بلقاسم مالكية من جامعة ورقلة، مداخلة بعنوان "الشعر في الثورة الجزائرية". وعرض الأستاذ التونسي حسن لولب مداخلة بعنوان "الصدى الفكري والأدبي والشعري والرياضي للثورة الجزائرية في المنشورات التونسية"، فيما عرضت الأستاذة حورية جيلالي من جامعة وهران، مساهمة المسرح الجزائري في دعم الحركة الوطنية والثورة. أما الدكتور سليم حيولة من جامعة الجزائر، فقدم مداخلة بعنوان "الفلاسفة والثورة، بنية الخطاب الفلسفي ودوره في تفكيك بنى الفكر التمركزي للاستعمار". وأبرز الناقد المسرحي محمد شنيقي أن الروائي الجزائري الراحل كاتب ياسين، استطاع عبر نصوصه الأدبية والمسرحية، أن يستحضر ذاكرة مدينة سطيف، والأحداث المأساوية لمظاهرات 8 ماي 1945، التي شكلت بالنسبة له، بداية التزام أدبي وسياسي وثوري. وقال شنيقي إنّه "لا يمكن الحديث عن كاتب ياسين بدون استحضار أحداث 8 ماي 1945؛ حيث تظهر صور الجنون والرعب والقطيعة النهائية مع الاستعمار في كل نصوصه؛ مثل "نجمة"، و"مناجاة"، و"دائري القصاص" وغيرها. وأضاف أن مدينة سطيف التي كانت مسرحا لهذه المجازر، كانت عبارة عن "مكان لذاكرة مأساوية"؛ ذاكرة فردية، وذاكرة شعب في آن واحد. وأردف شنيقي أن كاتب ياسين "لم ينجح يوما في التخلص من ذكريات تلك المرحلة، التي تركت آثارها على أعماله، وفي تاريخ الجزائر ككل. وقد عبّر المؤلف عن تلك المشاعر المختلطة في نصوصه. وحاول وصف ما يشعر به شاب في مقتبل العمر كان يومها طالبا في الثانوية في 16 عاما انخرط في مسيرة سلمية، ليجد نفسه محبوسا في محتشد عسكري بسطيف. وقد كتب كاتب ياسين عن هذه التجربة لاحقا في رواية "نجمة"؛ حيث تحدّث عن السجن، والتعذيب، والتهديد الذي تعرض له رفقة أقرانه، وعن حالة فقدان الصواب (الجنون) التي تعرّضت لها والدته، وهو ما جعل تيمة الجنون وصورة الأم حاضرتين في نصوصه.