أرض يفترسك جمالها لايترك لك مجالا للمناورة الجمال وحده هو السلطان الذي يبطش بقوته وجبروته، وتبقى الجزائر المملكة التي أنشأ عليها عرشه وأسس على ثراها أمبراطوريته، فكانت عينه المتوحشة وسلطته الضاربة، وضوءه المتدفق، ورعشته الحالمة، وموسيقاه المتدفقة، هي ذي الجزائر بجمالها وجلالها تكتب قصص الحب والروعة، وتنحت تماثيل الجمال والطبيعة، وفي إحدى مناطقها المنفردة بالجمال والملقحة بالتيه تنبت قصص الغرام والشعر واللون، ومن هذه القصص قصة »جوانيتا مربروك« التي أحبت بقلب شاعرة وبصدق جنون العامري في عشقه لكنها في ثوبها الأمريكي فأنجبت شاعرا نايليا. أرض منبسطة تحتضنك بشراهة، تملؤك حبا تفجرك بالأحاسيس والمشاعر الجميلة وتسلبك وجدانك كما فعلت ذات يوم بصائد الفراشات نصر الدين دينيه، يأتيها الفن ويشد رحاله إليها من بعيد لأن في عرصاتها تنتخي الألوان ويتدفق النور، ليس فقط تلك الجبال المطلية بالرمال، ولا ذلك الوادي الذي يسيل في الظل بين تشابك النخيل وتسلل الضياء قد يكون المكان بوسعادة، قد تكون نواقيس الهوادج أو حتى تلك المشدودة لرقاب النوق، ربما تختلط عليك رنات الخلاخل بنواقيس الإبل بأصوات النايات المنبعثة من بعيد، في هذا الحلم ينشأ الفن وتبدأ القصة قصة الشعر واللون والقبيلة وتنبع الأصول العريقة صافية لأن عرق الدم خفاق. إمرأة فنانة شاعرة تقذف بها الأمواج القزاحية من وراء المحيط الأطلسي الى دفء المتوسط ومن ثم إلى ربوع أولاد نايل، ليست هذه أحجية ولا هي من باب نسج الأساطير وانما تبدأ القصة من على فراش مرضى الموت حيث تنتصب الحقيقة وترفع ستر الإختباء وتتجلى اللوحة الرامزة التي عشقها الفنان بكل جملها ومنطقها، تقول الأم لابنها الذي اختطفته من عالم الجمال ومن أحضان قبيلته العربية وتجاوزت به المحيط كا هو حال قصص »ألف ليلة وليلة«، قصة حسن البصري والجنية الجميلة التي طارت بولديه وتركت له رسالة »إن كنت تحبني التحق بي في جزائر واق واق«. القصة لم تكن أسطورة حين نزلت الفنانة الأمريكية جوانيتا مربروك غوثيون مدينة بوسعادة بحثا عن الجمال المنفرد كأي معزوفة مبتكرة، أو فرارا من إزدحام المدن التي حجبت الشمس والسماء. فنانة تشكيلية ألوانها المشاعر والخيالات حاولت أن تتدقق بها على لوحاتها الخالدة عن سحر بوسعادة وأولاد نايل، إلا أن هذا الجمال والسحر الأخاذ أوقع قلبها الرهيف في حب عنيف متوحش كان بطله بدوي من أولاد نايل، هذا الرجل الأسمر المعمم، عيناه بلون النخيل ساعة السحر ووجهه المتألق كأنه لتمثال أسطوري قادم من عالم السحر، تزوجت جونيتا الفتى الأسمر البدوي وحملت منه طفلها الفنان جلول، ورغم جمال الفنانة القادم من الأزمنة الجديدة المبتكرة والتي أختلطت أعراقه فحوّلته الى منحوتة جمعت الجمال من جميع بقاع العالم، إلا أن الجمال الأصيل المدهش الذي لا يمكن مقاومته والذي يشبه الغزال الشارد في الصحراء يتعب مطارديه، استطاع أن يأسر قلب الزوج في عين نايلية لا يمكن مقاومتها فتزوجها البطل، فما كان من الأمريكية الفنانة إلا أن جمعت أغراضها ومنهم قلبها المكسور ورحلت إلى الجزائر العاصمة وهي تحمل بذرة حبها وفنها »جلول« الذي ولد في الجزائر العاصمة سنة 1934 دون أن يرى والده، ثم عادت الأم الفنانة الى موطنها أمريكا ومعها جلول مربروك وأقامت به في بروكلين بمنهاتن وهناك نشأ النايلي الصغير لكنه لم يفقد بداوته. هذا الطفل لم يفارق حلمه ''الجزائر'' بل كان يعيشها بكل فنه حيث قال إن والدته ظلت تردد أن والده توفي في رحلة صيد ببراري الجزائر لذلك قررت الرحيل، ولم يعرف حقيقة أن والده البدوي ظل حيا الى غاية نهاية السبعينيات، إلا مؤخرا عندما صدمته والدته بالحقيقة وهي على فراش الموت. جلول الأمريكي ربما يكون ورث من أبيه الشعر مثلما ورث من أمه الفن واللون، فهو بدأ الكتابة الشعرية في سن متقدم كما هم نوابغ العرب، وألف عدة كتب ودواوين شعرية من ضمنها ديوانه »فار فروم الجيرز« (بعيدا عن الجزائر)، بالإضافة الى سلسلة من الروايات منها »دايفرز اينجيلز« (الملائكة الغواصون)، و»كراودز أوف وان« (حشود من واحد)، وكذا »ارتيميسيز وولف« (أرتيمسيا الذئب) زيادة عن سلسلة من القصص القصيرة التي تحمل عنوان »لايترفوريو« (لك بعد حين). والدة جلول الفنانة جوانيتا مربروك تركت من جهتا عشرات اللوحات الفنية من بينها مجموعة من 147 لوحة خاصة بالحياة البدوية التي عشقتها في منطقة أولاد نايل بالجزائر، وقد اشترتها شركة سوناطراك لتعرضها بالجزائر العاصمة. الشاعر جلول نشر قصيدة تحت عنوان »أولاد نايل« طبعت ضمن مختارات طبعة الربيع ابريل 2010 لمجلة »سلان« التي تصدر بنيويورك. القصيدة استوحاها الشاعر من لوحة لوالدته رسمت فيها راقصة نايلية، حيث عشق جلول هذه اللوحة حيث يقول عنها: »سكنتني منذ أول وهلة شاهدتها، ولم أجد الكلمات لوصفها سوى عبارة ''الجمال المتوحش'' الذي لم أر ملثه قط في أي كائن بشري«. هي ذي قصة هذا الطفل الفنان البدوي من أم فنانة أو هبته اللون وأب أوهبه الأصالة والرجولة بكل عنفوانها وعفوتها فتفجرت شعرا وحبا وأصالة، فكان فنانا أسطوريا.