كنا نعتقد أن عهد الفخار والأواني الخشبية المنزلية قد ولى، لكن نداءات الغرابلجي ''الذي يصلح الغرابيل'' وهو يطوف بالأحياء الشعبية في بسكرة وبلدياتها تؤكد تمسك الجزائريين بموروثهم. عمي معطى الله بركة صاحب البشرة السمراء والقامة القصيرة يخبرك بما تخفيه الأواني المنزلية التقليدية من نكهة لا تضاهيها طاولات أفخم الفنادق وصحونها المزركشة. إنه ابن مدينة أولاد جلال التي ولد فيها وترعرع، هو من مواليد 1950 تعلم إبان الحقبة الاستعمارية، لكن لم يتسن له مواصلة الدراسة في شهادة الأهلية ليتم إدماجه في ورشات التكوين المهني. تعلم حرفة النجارة العامة ما بين عامي 64 - 1966 وتحصل على عدة شهادات في مجالات حرفية، ولديه خبرة سنوات عدة احتك فيها بمختصين من إيطاليا وفرنسا. يعرف باسم ''حلال المصاعب'' يقصده كل من يريد إصلاح أوانيه وأشيائه، وحاليا يجد راحته في النحت على الخشب، وجدناه في محله مع ''قصعات العود'' الخشبية وكأنه يدندن بطقطقة المطرقة عليها وحتى وهو يحدثك تحس بأنه إنسان فنان بارع، ويقول عن حرفة تصليح القصعات إنها فن وتاريخ وثقافة: ''عمر القصعات التي وصلت لمحلي المتواضع الكائن بالحي الغربي - كرفة عبد القادر - أولاد رميلة يتراوح بين شهر إلى 100 سنة''.. ويضيف ''تختلف القصعات القديمة عن الجديدة كون الأولى مصنوعة بإتقان من قبل الحرفي الذي يحصل على المادة الأولية، من مكان بعيد، أو يأتي التجار بالمادة الأولية من أماكن اشتهرت بأشجار الدردار والجوز في التلال وفي منطقة الأوراس''. يحدثنا معطى الله عن مغامراته مع ''قصعة العود'' فيقول: مؤخرا جاءتني قصعة لشخص يقطن بعاصمة أولاد نايل (الجلفة) تفوق صاحبها سنا، حيث يتجاوز عمرها ال120 سنة، وعن هذا الارتباط بين القصعة والإنسان كشف لنا سر ذلك ''فالقصعة لدى الجزائري والنائلي بالخصوص تشتم فيها رائحة الأجداد والآباء والأمهات، وتعتبر موروثا أصيلا، لا يمكن للجزائري أن يفرط فيها، فهي وسيلة جمع ورحمة وبركة.. لأفراد العائلة''. وعن أدوار القصعة يحدثنا: ''هناك من تستعمل للفتيل أي لتحضير الكسكسي، والعيش (البركوكس) وخبز الفطير والخمير.. وهناك قصعات للأكل وتتنوع فمنها الفردية وهي عبارة عن صحن صغير تعرف ب ''التاجرة'' وهي التسمية ذاتها عند أولاد نايل، يمكن أن يجتمع حولها بضع أفراد. المفرد - بفتح الميم وتسكين الفاء - هو صحن خشبي يقوم على قاعدة وعنق ويستعمل كذلك لإطعام بضعة أشخاص، كما أن هناك قصعات كبيرة تلتم حولها العائلة وقصعات لا يحلو الأكل إلا فيها، فسحرها قد يتجاوز مذاق الأكل بحد ذاته وهو السر كذلك في حلاوة حفلات الزفاف حين توضع فيها (المتمرة) على غرار أكلة الشخشوخة ذائعة الصيت والبربوشة، والبركوكس (العيش) كما يعرف محليا. عمي معطى الله يشده الحنين إلى صناعة المهاريس والتي له فيها فنيات غاية في الجمال، إلى جانب الغليون ومقابض السكاكين الأصلية وسيوف الزينة، ويفتح معطى الله قوسا: ''صناعة هذه المنتجات ليست لمن هب ودب يفعل بها ما يشاء، إنها عصارة تعبير فني لصاحب موهبة وفن أصيل.. يضعها الباحث عنها في أماكن مقدسة ويهديها لأناس لهم مكانة وقدر رفيع''. وينصح عمي معطى الله من بهرتهم الصناعات الحديثة بالتمسك بكل ما هو أصيل ويضرب لنا مثلا بالزراعات والخضراوات والمنتجات الفلاحية التي طالها الاستعمال غير العقلاني للمواد الكيميائية وتدخل الآلة في إنتاجها، وهو ما يسبب أمراضا فتاكة.. فشتان بين هذا وذاك -يضيف - وقصعات العود متعة وذوق وفن وأصالة وصحة أيضا-.